تطالعنا وسائل الإعلام من حين لآخر بشعارات هامة، بعضها مستحدث وبعضها مسترجع،ومنها ما تعلق بموضوعات حساسة مثل ما رفع بكثرة في الآونة الأخيرة حول حقوق الإنسان. لقد رفع هذا المبدأ من طرف العديد من الجهات وفي مناسبات عدة ولأهداف مختلفة حقا.. لذا يبقى المتتبع لهذه التصريحات أو تلك حيرانا، خاصة عندما تصدر عمن تحوم حوله شبهات أو شكوك في صدق نواياه،أو ممن كان في وقت غير بعيد يدوس تلك الحقوق ويستهتر بها، وكأنما لم تبعث هذه الحقوق إلا بعد أن فرغ هو من أعماله ومهامه القذرة في ما كان يسمى بمستعمراته. ولعل من الأمثلة الملموسة ما عاشته وعانت منه الجزائر.. فبعد أن استولت عليها فرنسا الإستعمارية بالقوة استباحت كل خيراتها، وحاولت إذلال شعبها مستعملة كل الوسائل، فقمعت كل محاولات تحررها من خلال الثورات المتعددة التي قامت بها.وفي كل مرة تسلط على المواطنين أصناف الظلم والقهر والسلب للأراضي والأملاك. وفي الثورة الكبرى لأول نوفمبر1954 سلطت السلطات الإستعمارية كل الوسائل الجهنمية على الشعب الأعزل، فشردت وهجرت وحشدت وقتلت شر قتلة أبرياء، نساء ورجالا، في القرى والمداشر وكافة النواحي من القطر.فلم تسلم حتى الحوامل من رهانات الأوباش لما وقع رهانهم على جنس الجنين ليفتحوا البطون بوحشية.أضف إلى كل ذلك ما عمد إليه العدو من استعمال النابالم لحرق المواطنين، وهو المحرم دوليا،إلى غير ذلك من أصناف القهر والإضطهاد.وكل ذلك مسلط من طرف فرنسا الإستعمارية التي تدعي أنها مهد الحرية وحقوق الإنسان. فأين كانت حقوق الإنسان آنذاك أم إنها بضاعة جديدة تسوق للدول وبخاصة الحديثة العهد بالحرية والاستقلال، بغية الضغط عليها والتشهير بها إن هي لم تستطع أن تحقق ما تمليه مثل هذه المواثيق في مجال حقوق الإنسان مثلا. إن الجميع على علم بأوضاع الدول الحديثة العهد بالحرية والإستقلال وبخاصة فيجنوب الصحراء،ونزعاتها العرقية العريقة والمتأصلة فيها منذ القدم.فكيف تطلب منها سلوكات لم تصل إليها تلك الدول التي تتغنى بهذه الشعارات إلا بعد حقب من الزمن، وبعد حروب طاحنة فيها أتت على الكثير من أبناءها قبل أن تبلغ المستوى الذي تدعيه اليوم. لقد أصبح هذا الشعار يرفع هنا وهناك كسلاح في وجه الدول الحديثة من طرف من هو أدرى بأوضاعها الحرجة، خاصة وأنه ممن كان له الضلع الأكبر في ترديها، وممن لا يزال يعمل بخططه الجهنمية على إبقاءها في المستنقعات التي تتخبط فيها، تبعا لما تركته فيها من الحالات الحرجة المعقدة بغية مواصلة استغلالها واستنزاف خيراتها. ولقد اعتمدت هذه القوى المستغلة على قدراتها المتعددة، كما وجدت في عناصر محلية متخاذلة دعما ساعدها على بلوغ مآربها وأغراضها الدنيئة مع الأسف، لتوسيع الهوة بين الإخوة الأشقاء والفرقاء المتخاصمين، وليقوى الصراع، فتكثر التعديات وعدد الضحايا.لقد أصبح هكذا التستر بدعوى حقوق الإنسان وحمايتها ذريعة مثلى وأحسن غطاء لأي تدخل مخطط له من طرف هذه القوات الأجنبية في الشؤونالداخلية لهذه الدولة أو تلك. وإن المتتبع لتطور الأحداث ليلاحظ مدى شره الدول المستعمرة قديما ومحاولة الرجوع إلى الساحة التي غادرتها تحت غطاء أو آخر، وعلى رأسها دعوى الدفاع عن حقوق الإنسان التي حسب زعمها تنتهكأو لاتحترم. هذا ولقد تفرعت هذه الحقوق للإنسان إلى حقوق المرأة وحقوق الطفل وغيرها، كل وما يرمي إليه من مقاصد، سواء في مجال الرأي أو المعتقد، أو الإجتماع أو تكوين الأحزاب ومختلف الجمعيات، وتبقى حرية الإنسان على رأس كل تلك الحقوق. لقد اتخذت الأممالمتحدة من هذا الشعار رمزا من رموزها ترفعه حسب ما شاءت لها ظروفها و تقلباتها السياسية. لكن أين رعايتها والدفاع عنهذه الحقوق في العديد من القضايا المستعصية إلى اليوم مثل قضية فلسطين وغيرها في بقاع العالم والمغلوبة على أمرها، أمام مرأى ومسمع من الدول التي تدعي وتتبجح بحقوق الإنسان،بل ومنها حتى تلك التي تعمل جاهدة لإبقاء نيران الفتنة مشتعلة لتسوق أسلحتها ومختلف عتادها فتغطي بذلك عجزها في إدارة اقتصادياتها في بلدانها على الوجه الأمثل. ومن المظاهر العجيبة حقا ما نشاهده من التقاتل بين الإخوة الأعداء بأسلحة مختلفة، والبعض منها متطورة، يستعملها من لا يزال يعاني من الضعف ونقص في التغذية الظاهر عليه جسديا،في حين كان أحرى به أن يوجه موارده لاقتناء المواد الغذائية الضرورية التي تنقصه، واللباس لستر جسمه، عوض تخصيصها لشراء كل تلك الأسلحة الفتاكة لإبادة إخوته والمشاركة في خراب بلده. ومن جهة أخرىنشاهد ونعيش استغلالا لهذا الشعار من طرف جهات متعددة بغية البروز أمام أخرى.فهناك جمعيات لحقوق الإنسان وأخرى للدفاع عن حقوق الإنسان،وهذا بغض النظر عن المدافعين عن حقوق طائفة هامة مثل النساء أو الأطفال أو غيرها من الشرائح الأخرى التي تعددت وتنوعت مع حرية التكتل تحت غطاء حرية الرأي وتكوين الجمعيات. إن الدستور الجزائري حاول حقا ضمان كل هذه الحقوق، وفسح المجال أمام كل الراغبين في الدفاع عنها، والعمل على ترقيتها لمن آنس من نفسه استعدادا وتضحية للنضال دون هذا الجانب أو ذاك.فلا بأس إذن أن يكون التنافس الشريف والعمل النزيه لترقية الجانب الذي قد يتولاه أي مناضل دون اتخاذ ذلك مطية غير معلنة لبلوغ أغراض دنيئة أو تحطيم ما بناه الأوائل المخلصون. إن المشكل الحقيقي يكمن في مدى وعي المواطنين لحقوقهم، والطريقة المثلى للحفاظ عليها أو الدفاع عنها.فمعرفتها حق المعرفة من الشروط الأساسية ثم إن المستوى التكويني والوعي السياسيله دور فعال في الممارسة الإيجابية، وإلا يكن الخلط والعمل العشوائي سيد المواقف. وإلى جانب كل الشروط اللازمة والضرورية لا بد من توفر الأجواء المستقرة أمنيا، فلا سبيل للحديث عن حقوق الإنسان أو احترامها في ظل التطاحن والحروب مثل ما تعيشه بعض البلدان أخيرا.فالأوضاع في مثل هذه الحالات يستحيل الحديث معها عن أي حق ما دام الحق الأساسي غير متوفر وهو الحق في الحياة في ظل الكرامة والعيش الهنيء. هذا وإن ما تعيش منطقة الشرق الأوسط مثلا من قصف متعدد الأطراف تحت أغطية مختلفة متضاربة يستحيل معها التحدث عن حقوق الإنسان بله احترامها.فهناك عصابات تريد فرض سلطتها بالقهر والإرهاب، ومن جهة أخرى سلطة تحاول المحافظة على وجودها ولو باستعمال القوة لفرض ذلك، والكل يدوس مع الأسف على أبسط حقوق الإنسان. والغريب أن الدول الأجنبية التي تشارك مع هذه الجهة أو تلك تطالب باحترام حقوق الإنسان في البلدان التي تستهدفها بتدخلاتها العسكرية،بحيث لا إمكانية هكذا أبدا لاحترام أي حق من حقوق الإنسان،وهذا هو المنطق المعكوس تماما. ولعله من العجيب في الآونة الأخيرة أن نرى الدول الإفريقية تعقد جلسات للتحدث عن حقوق الإنسان، والحال أنها في العديد منهاتعيش عدم استقرار وتطاحن بين أبناءها مع الأسف، مما يستحيل معه التحدث عن حقوق الإنسان أصلا، خاصة وأنها مهددة في أمنها، وتفكر في إعداد أو جلب قوات للتدخل قصد الإعانة على استرجاع الأمن واستتبابه،فأضحت سوقا رائجة لسلاح الدول المخططة لعدم استقرارها، عوض استغلال أموالها وقدراتها للنهوض بأبناءها من الفقر والمجاعة والجهل والبطالة والمخدرات والأمراض المستعصية.هذاومن مرامي هؤلاء المؤججين للفتنة بين الأشقاء العمل، مع الأسف،لأن تكون هذه الدول المنهكة مجالا فسيحا لاستثماراتها في نطاق إعادة بناءها بعد نهاية المأساة. ومن المفارقات المؤسفة أن نتابع ما يدبر لهذه الدول ويكال لبعض مسؤوليها من محاكمات على مستوى محكمة العدل الدولية، وأنها ما انتصبت إلا لمتابعة مسؤولي مثل هذه الدول عما اقترفوه من تجاوزات إبان حكمهم وعدم احترام حقوق الإنسان خاصة.فأين العدالة في التعامل في هذا المجال مع جهات غبر إفريقية قد عرفت إبادات جماعية وتصفيات عرقيةإطلع عليها القاصي والداني.لقد ضرب عليها ستار من التكتم، وتغاضت عنها المحكمة الدولية لما عرف عنها من السيطرة التي تخضع لها من طرف القوى التي توصف بالعظمى والمتحكمة في تسيير العالم بمختلف الوسائل. إن الحديث عن حقوق الإنسان هكذا معمما على كافة الدول غير واقعي، وضرب من الخيال والمحال، ما دامت الأوضاع مختلفة من دولة إلى أخرى، والمستويات متباينة أمنيا واقتصادياواجتماعيا.فحين ما تبلغ دولة ما ذلكم المستوى الحضاري المزدهر والذي يطمح إليه كل وطني غيور، سيمكن معه آنذاك الحديث عن الحقوق كلها، وعلى رأسها ما يسمى حقوق الإنسان بجدارة واستحقاق. لذا يمكن اعتبار الحديث عن حقوق الإنسان في الظروف الحالية والمتوترة نوع من التحدي والإستفزاز لشعور المواطنين الذين هم واعون كل الوعي بهذه الأفكار النيرة، ولكنهم لا يزالون يعيشون أوضاعا دون طموحاتهم، آملين أن تتحسن بفضل الله وتضافر جهود المخلصين من أمثالهم ليمكن الحديث بعدها عن مثل تلكم القيم. ومن جهة أخري لا يجب التركيز إلا على المطالبة بالحقوق فقط، لأن ذلك يفرز سلوكات سلبية وذهنيات استهلاكية مع مرور الزمن. وفي الحقيقة إن الحقوق تقابلها الواجبات.فحري إذن أن يسعى كل واحد لأداء واجباته حتى تكون مطالبته بالحقوق معقولة ومقبولة. هذا ويجب على أي طالب لحق مهما كان مشروعا أن يراعي إمكانيات بلده وظروفه، حتى لا يكون ما يطلبه شططا أو تعجيزافيصاب بإحباط، أو يضطر أن يدخل في صراع عقيم. وفي الختام إن فكرة حقوق الإنسان هكذا كما يعتمدها حتى من لا بفقه مداها قد أدت في بعض الحالات إلى استعمال سياسوي،أضر حيث كان من المفروض أن يعين على إصلاح للأوضاع، أو يساهم في تغييرها بحكمة وتبصر،فتأتي بالثمار المرجوة منها. هذه بعض الخواطر حول شعار حقوق الإنسان الذي أصبح يرفع هنا وهناك عن حق أو باطل، فلا يجب أن يعقد مثل هذا الشعار أي مخلص، ما دام يعي بعده بعمق،بل يجب أن يدفعه إلى العمل بإخلاص لتحقيقه قولا وعملا. وفي الحقيقة ما لنا نذهب بعيدا في هذا المجال الحيوي الحساس مقتبسين من النظم الغربية الأجنبيةونحن المسلمون لنا في المبادئ السامية التي رسمها لنا رسولنا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم خير منهاج.فقد ورد في خطابه بمناسبة حجة الوداع نصائح غالية حقا في مختلف المجالات، سواء ما تعلق بحقوق المسلمين بعضهم على بعض بخصوص دماءهم وأموالهم،أو حقوق النساء وغير المسلمين، أو كماصدرتعنه من المواقف طيلة حياته سواء في مكة أو المدينة، حتى مع غير المسلمين، أو ما أوصى به مختلف مبعوثيه للحفاظ على بني الإنسان أو الحيوان أو النبات مما يدل على البعد الحضاري حقا للرسالة المحمدية. فلو درسناها بعمق وتمعن لأدركنا كل الأبعاد الإنسانية التي وردت قبل أكثر من عشرة قرون فاعتمدها من بعده المتشدقون بحقوق الإنسان من الغرب كأنهم مبتكروها، وهم الذين داسوها عمليا عند استعمارهم بل واستدمارهم لعدة دول. ولقد حاولوا إيهام الرأي العام بتبنيهم لهذه الحقوق والدعوة لاحترامها بل وفرضها لدرجة اعتبار ذلك معيارا للتقدم والتحضر لأية دولة. إنها من الوسائل المبتكرة للضغط عليها من جديد،فلا يجب الإنخداع بها وإنما التعامل معها بحكمة وتبصر كما سبق ذكره.