حاولت أن أتابع إعلاميا قضية انسحاب شركة إعمار الإماراتية من الجزائر بعد غلق مكتبها، فوجدت أن مدار ما كتب لا يخرج عن ثلاث قراءات متناقضة في تفسيراتها وتأويلاتها، بين الاتجاه الأول الذي ينطلق من قناعات سياسية وإيديولوجية ويحسم مسألة تبخر مشروع 20مليار دولار في تأثيرات ما تسميه بعض الأقلام باللوبي الفرنكوفوني أو الفرنكوفيلي الذي يقف وراء العراقيل الكبرى لإبعاد الاستثمارات العربية لتسهيل التمدد الفرنسي في العمق الجزائري بما يخدم ارتباط مصالح هذه النخبة السياسية والبيروقراطية مع باريس. وربما هذا ما جعل البعض يحاول أن يؤرخ للجزائر بفترة ما بعد إعمار، وهي الفترة التي ستكون كارثية على مستقبل البيئة الأمنية والاستثماراتية العربية والعالمية في الجزائر، بحيث ستؤثر سلبا على سمعة الجزائر لأن إعمار العربية شركة عالمية لها صداها وثقلها في عالم المال والعقار. هذا فيما يخص الاتجاه الأول وتفسيراته لقضية انسحاب إعمار، أما الاتجاه الثاني، فيركز على ما تسميه بعض الأقلام الإعلامية بالوطنية الاقتصادية، التي تستند في تفسيراتها لانسحاب إعمار بتوجه الحكومة الجزائرية في تعديلات قانون الاستثمارات بما يخدم المصلحة الوطنية الجزائرية، بحيث أجبرت الجزائر كل مستثمر أجنبي أن يتنازل عن أصوله بنسبة 51بالمائة لصالح المستثمر الوطني مع مشاركة المستثمر الوطني كذلك بنسبة 30بالمائة مع شركات الاستيراد الأجنبية، وهو ما اعتبر تضييقا للمستثمرين الأجانب وخرقا للالتزامات الدولية للجزائر، بالأخص في إطار اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي دخلت حيز التنفيذ قبل أكثر من ثلاث سنوات، وفي ظل هذه التحولات القانونية يمكن قراءة انسحاب شركة إعمار، إلا أن التأريخ لفترة ما بعد إعمار تقل حدته في تفسير مستقبل الاستثمارات في الجزائر، لأن السند المبرر لهذه الترسانة القانونية الوطنية تفسر على أنها ضرورة وقائية لتجنب كارثة مماثلة لسيناريو أوراسكوم-لافارج، حيث باعت الشركة المصرية مصنع الإسمنت في الجزائر للشركة الفرنسية لافارج دون إذن السلطات الجزائرية وبأرباح حققتها الشركة الفرنسية فاقت مليار ونصف المليار دولار دون أن يدخل الخزينة العمومية أي فوائد في انتقال الأصول من المستثمر العربي إلى المستثمر الفرنسي بالرغم من التنازلات والتسهيلات والتحفيزات المالية والضريبية التي قدمتها الجزائر في عملية بيع مصنع الإسمنت العمومي، وعليه يمكن قراءة انسحاب إعمار في ظل هذا التفسير على أنه إدراكا من الجزائر لمخاطر هذه التحولات المالية التي قد تعطي نتائج كارثية في حالة تحويل الأصول والأرباح خارج الوطن، وهو القرار الرئاسي الذي أجبر المستثمر الأجنبي أن يعيد استثمار أرباحه في حدود 15بالمائة بالعملة الصعبة، ويحذر الخبير الاقتصادي الجزائري عبد الرحمن مبتول من هذه المخاطر عندما تكون الجزائر مجبرة على توفير السيولة المالية لتأمين تحويلات الفوائد التي ستجنيها الشركات الأجنبية في حدود 10مليارات دولار في سنة 2010وقد تصل إلى 80مليار دولار في سنة 2013، مما يعرض الجزائر للإفلاس في حالة عدم تمكنها من مضاعفة الناتج الداخلي الخام في حدود 260مليار دولار على الأقل. أما الاتجاه الثالث، فيفسر انسحاب شركة إعمار انطلاقا من البيئة المالية والاقتصادية العالمية، كما تركز على الوضع المالي للشركة في ظل أزمة العقارات الأمريكية التي أدت إلى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، وقد تزامن انسحاب إعمار مع المؤشرات السلبية لقطاع الاستثمارات في العالم بحيث يشير البنك العالمي إلى ترقب تراجع الاستثمارات العالمية في قطاع العقار في نهاية سنة 2009ما بين 30إلى 40بالمائة في العالم، وهو ما يدفع كبرى الشركات العقارية العالمية على التخلي عن الكثير من مشاريعها التي هي في قيد الإنجاز والتطوير، بسبب التأثيرات والصدمات المالية التي تلقتها هذه الشركات ويبدو نموذج إعمار واضحا هنا حيث تراجعت أسهمها في فترة الأزمة المالية بنسبة 80بالمائة وهو ما جعل مدير مجلس إدارتها يمتنع عن توزيع أرباح المساهمين للسنة الرابعة على التوالي بسبب ما سماه ضرورة المحافظة على استمرارية الشركة، وتتضح الصحة المالية لشركة إعمار هنا بقرار الاندماج الذي اتخذته قبل أسبوع من انسحابها من الجزائر، بحيث انضمت إلى شركة دبي القابضة التي تضم بدورها ثلاث شركات، وعملية الاندماج في حد ذاتها تفسر من وجهة نظر سلبية على أنها حتمية إستراتيجية للتكيف الإيجابي مع أوضاع أمنية خطيرة قد تنقذ الاستثمارات وتعطي الصحة والعافية للمندمجين. فأي من القراءات تبدو أقرب إلى التفسير الواقعي، هل يمكن الاستناد إلى القراءة الكلاسيكية والاكتفاء بالقول أن الصراع الفرنكوفوني العربي في الجزائر له دور في انسحاب إعمار، وهنا نكون قد اصطدمنا بالأرقام الرسمية التي قدمها وزير الصناعة والاستثمار عبد الحميد تمار، الذي يؤكد بأن الاستثمارات العربية المباشرة في الجزائر قد وصلت إلى 5,8 مليار دولار ما بين 2001و2007 وفي الفترة ذاتها مثلت المشاريع العربية 60بالمائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهو ما يعني أن العرب موجودين بقوة في الساحة الجزائرية ويكفي أن ترى قطاع الاتصالات تستحوذ عليه استثمارات مصرية كويتية، وإن كان مفهوم الوطن هنا يتراجع أمام الأسهم المعروفة والمجهولة التي تشكل رأسمال الشركات العربية والغربية على حد سواء، لأن المال لا وطن له ولا أيديولوجية وعليه يقال عادة أن رأس المال جبان لا يستثمر إلا في البيئة الآمنة، ومن ثمة نتساءل هل حقيقة أن الترسانة القانونية الوطنية عجلت برحيل إعمار وبالأخص بعد الانتقادات التي أطلقها الوزير الأول أحمد أويحي، على هامش جلسة مصادقة مجلس الأمة على مخطط الحكومة، وتتعلق بعدم جدية بعض مشاريع الاستثمارات العربية التي بقيت حبيسة المجسمات والتقديرات الحسابية وأرقام في الهواء؟ أم أن انسحاب إعمار مرتبط في النهاية بالوضع المالي العالمي الذي أثر سلبا على نشاط واستثمارات الشركة وبالتالي يفسر قرار الانسحاب على أنه قرار يساير الاتجاه العام لشركة إعمار التي اضطرت في ظل الأزمة العقارية الأمريكية إلى طلب الحماية لوحدتها الأمريكية زجون لانج هومزس بموجب الفصل الحادي عشر من قانون الإفلاس الأمريكي بعدما تراجعت أرباحها في الربع الأول من السنة بنسبة 74في المائة، فقراءتك وتفسيرك لانسحاب إعمار تبقى حبيسة قناعاتك الإيديولوجية والسياسية أو الاقتصادية أو المالية لكن ما اعتقده أنه ليس هناك فترة ما قبل إعمار أو ما بعدها.