ربما كان الجيل الأول من المثقفين الجزائريين أكثر حظا و وعيا من غيره من الأجيال التي جاءت بعده بضرورة العودة إلى المرحلة الكولونيالية بما هي جزء من التاريخ الجزائري، وذلك من خلال تقصي منابع الثقافية الجزائرية و ربطها بتمثلات المثقفين الكولونياليين و هم يؤرخون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للذات الجزائرية التي عبرت بمصيرها التراجيدي محطات القرن الأكثر حسما للكينونة و الوجود و الآنا و الآخر في تاريخ الحداثة الغربية و هو القرن التاسع عشر، و تتكوّن بما توفّر لها من إرادة لمواجهة التصوّر الغربي المُهيمِن لمسألة الوجود و الحرية و التحديث. لقد استطاع هذا الجيل من المثقفين الجزائريين أن يحمل بكل جدارة، على الرغم من اختلاف نظرتنا الراهنة لمساراته النضالية، عِبْءَ النظرة التطلّعية المشحونة بكثير من الاندفاع الثوري المنحاز للحرية كما حرص العديد المثقفين الثوريين الأوائل أن يعكسوها في كتاباتهم لمواجهة للخطاب الفكري الامبريالي في الجزائر المستعمرة مثلما هو الحال بالنسبة لرضا مالك و مصطفى لشرف و مالك بن نبي و فرانز فانون و محمد شريف ساحلي و غيرهم كثير من المثقفين الثوريين الذين لم تتح لهم فرصة الحرص على ترك الأثر المكتوب فعوّضوه بالالتزام الثوري و النضال السياسي الميداني الذي امتد لسنوات في فترة بناء الدولة الوطنية. كما كان لمثقفين جزائريين آخرين نشأوا من بيئات اجتماعية مختلفة و عايشوا الشرط الاستعماري نفسه و لكن بصورة يطغى عليها وقعُه الرهيب في القرى النائية و المدن الداخلية التي وُلد معظمهم فيها، نظرةً ثورية موازية أو مختلفة أو مناقضة لهؤلاء المثقفين بالنظر إلى عاملين اثنين حددّهما واقع المقاربة التي يحملها هؤلاء و هؤلاء عن الذات الثقافية الجزائرية كما يجب أن تكون في نظر كلّ منهما بعد التحرر من الاستعمار و الشروع في بناء الدولة الوطنية، و هما عاملُ اللّغة و عاملُ تصوّر مسألة التحديث الاجتماعي. و بإمكاننا أن نذكر من هؤلاء الشيخ عبد الحميد بن باديس و البشير الابراهيمي و الطيب العقبي و غيرهم كثير من مثقفي جمعية العلماء و شعرائها و أدابئها. لقد شكّل هؤلاء و هؤلاء بمختلف قناعاتهم حقيقةً فكرية و إيديولوجة أسّست لخطاب ثقافيّ حاسم طالما لعب دورَ المِنصّة/الواجهة التي تتكسر عليها الرؤية الثقافية الاستعمارية المهيمنة، و التي كانت تستمد فعاليتها في باطن الذات الثقافية الجزائرية ممّا وفرته لنفسها من قوّة نفاذ في واقع المثقفين الجزائريين، و من حقيقة نفوذ في واقع ما تركته الرؤية الكولونيالية من حقائق انعكست على واقع الانسان الجزائري المنشطر إلى إنسانين مختلفين في مقاربتهما للواقع الذي كان يعيشه: إنسان المدينة الحامل لرؤية أكثر انفتاحا على الثقافة الغربية بما هي صورة تمدّن تتيح له التعامل مع عوالم الحداثة بكثير من الجاهزية و الوعي ، و إنسان الريف و المدن الداخلية الممتدة في أقاصي الوطن الجزائري الحامل لرؤية منغلقة على ما رسَّخَهُ الاستعمار في واقعه من بؤس ماديّ و حرمان ثقافيّ و انقطاع عن عوالم الحداثة كما كان هذا القرن الحاسم يحققها في مختلف المجالات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و يوفر بعضا من إجراءاتها و مزاياها لمن أتيحت لهم السكن في المدن الكبرى. لقد لعبت اللغة دورا حاسما في تشكيل وعي مزدوج لدى المثقفين الجزائريين و هم يواجهون، كلٌّ بطريقته، الواقعَ الكولونياليّ انطلاقا من قناعات مستمدّة من معايشة ما أتاحته الثقافة الكولونيالية لهؤلاء لكي يواجهوها، و ما لم تتحه لؤلاءك لكي يواجهوها كذلك. و ربما كان فارق تشكّل هذا الوعي المزدوع بالحقيقة الكولونيالية هو هذا الحرص الكولونيالي على اعتبار اللغة عاملا حاسما في تحقيق ازدواجية في تصوّر المثقفين الجزائريين للحقيقة الكولونيالية و في توريث هذا التصوّر لأجيال جديدة من المثقفين ستحاول أن تؤسس قناعاتها الراهنة بناءً على إرث ثقافيّ، ثوري و وطني في عمومه، و لكنه مزدوج في تطلعاته لتحقيق حداثة فكرية و ثقافية أولا، و مزدوج كذلك في تصوّر إجراءات تحقيقها في واقعه الاجتماعي. و على الرغم ممّا حاول هؤلاء المثقفون ترسيخه في الواقع السياسي الذي أصبحوا فاعلين فيه خلال فترة الاستقلال من قناعات بأهمية تعالي الفكري على الأداتي في طرحهم للمسألة الثقافية في الجزائر المستقلة، و من خلال عودتهم إلى جذور نشأتها في الفترة الكولونيالية، إلا أن ‘حالة الإرجاء' التي ميّزت هذه الخطابات و هي تتعرض لبنية الثقافة الجزائرية و مكوناتها الباطنة المتروكة عمدا لهباء التاريخ نظير النضال المستمر داخل اللحظة التاريخية أكدت على حقيقة مُلحّة حاول إنكارها جلّ هؤلاء المثقفين عبر مسارهم النضالي من داخل قناعات الدولة الوطنية، و هي أن الرؤية التي حملها المشروع الثقافي الوطني عن هذه الازدواجية إما أنها لم واعية بما يمكن أن تحمله عملية إرجاء المسألة اللغوية من خطورة على الأسس التاريخية و الحضارية لبناء الذات الثقافية الجزائرية، و إما أنها تعمدت إرجاءها لأسباب متعلقة بتعقد مشاريع التحديث داخل تعقدات اللحظة السياسية. و في الحالتين، تشير حالة الإرجاء المستمرة على أن الرؤية التي صاغت بها فرنسا الكولونيالية مشروعها التحديثي للمجتمع الجزائري كانت مبنية أساسا على ترسيخ فكرة الازدواجية في حقيقة المجتمع الجزائري لا بوصفها كسرا ألسنيا فحسب، و لكن بوصفها كسرا اجتماعيا يمكّن من تعميق الهوّة بين المثقف الما بعد كولونيالي الحامل لرؤية تحديثية للمجتمع مكنته منها اللغة الفرنسية بما أتاحته له من انفتاح على عوالم الحداثة الغربية و من انغلاق على المنابع الثقافية للمجتمع الجزائري، و بين المثقف المابعد كولونياليّ الحامل لرؤية تحديثية للمجتمع مكنته منها اللغة العربية بما أتاحته له من انفتاح على منابعه الثقافية و التشبث بامتداداتها التاريخية المتعددة و من انغلاق على ما تحمله الثقافة الغربية من أبعاد إنسانية ضرورية لتحرير الانسان الجزائري من عوائق النظرة الاستعمارية للغة. لقد مرّت على الجزائر المستقلة أكثر من ستين عاما من الحرية السياسية و تجربة بناء الدولة الوطنية المعتدّة برؤيتها لجذورها التاريخية و هويتها الوطنية. و قد تشكّل في خضم ذلك وعي جديد أجيال جديدة من المثقفين الجزائريين الذين لم يعايشوا فترة الاستعمار كما عايشها الجيل الأول من المثقفين الذي سبقهم، و لكن الخطاب الثقافي الجزائري الذي تنتجه هذه الأجيال الجديدة لا يزال يحمل المطبات التاريخية نفسها التي ورّثها الجيل الأول لأبنائه و أحفاده عن الهوية و التاريخ و الحداثة، كما لا تزال مسألة ازدواجية النظرة إلى المسألة اللغوية عاملا حاسما، تماما كما رسخته النظرة الكولونيالية في بدايات القرن التاسع عشر، تؤسس للتفريق بين التصور ‘الرجعيّ' للحداثة المعرّبة و التصور ‘ الطلائعي' للحداثة المفرنسة.