دعوت صديقا لي يوما لمرافقتي إلى المسرح لمشاهدة عرض مسرحي ، فعلت هذا و أنا أعلم جيدا أن صديقي ليس من المرتادين على المسارح و لا حتى من المولعين بأبي الفنون. و أكثر من هذا ، فإنه لا يستطيع أن يبقى أكثر من نصف ساعة داخل قاعة يمنع فيها التدخين. لكنه و رغم كل هذه الفوارق الشاسعة بينه و بين المسرح لم يجرأ صديقي على رفض دعوتي و قبل من دون إلحاح مني على مرافقتي ، ليس حبا في المسرح و لكن في الصداقة التي تجمعنا. عند ولوجنا إلى قاعة العروض لاحظت صديقي مرتبكا و يمشي بخطوات متثاقلة و كأنه يقتحم فضاء غريبا عنه و لا يعرف أين ستنتهي به هذه المغامرة المجهولة العواقب. و لولا تقديسه للصداقة التي بيننا لكان اعتذر لي و غادر المبنى بلا رجعة. لكنني و تفاديا لهذا الاحتمال الوارد جدا وقوعه ، استبقت صديقي إلى أحد الكراسي و عرضت عليه أن يجلس بجنبي، ففعل بدون أدنى تحمس، جلس إلى جنبي و حدق في ثم أبدى رغبة كبيرة في النهوض مجددا و قال لي : - أتظن أنه يمكنني أن أدخن سيجارة بالبهو قبل بداية العرض؟ لا يمكنك ذلك.. لأن العرض المسرحي سيبدأ بعد أقل من خمس دقائق .. قلت لصديقي. و كم كانت الحسرة البادية على وجه صديقي كبيرة و هو يسند ظهره من جديد إلى الكرسي الذي كان على وشك مغادرته، لكن هذه المرة من دون أن يخفي خيبة أمله. نظر صديقي إلى ساعته و كأنه بدأ يعد الدقائق الخمس، ثم صرف نظره عن ساعته و راح يتأمل في الجمهور الذي اكتظت به القاعة كما اعتادت على ذلك في كل عرض عام لمسرحية. فسألني صديقي : كم مقعد تحويه القاعة؟ لست متأكدا من ذلك لكن أظن أنه يقارب ال800 مقعد.. قلت. يبدو أن المسرحية جميلة لكي يحضرها جمهور بهذا الحجم ..قال صديقي. أتمنى أن تعجبك.. قلت. لم يرد علي صديقي و راح يتأمل في أشكال الزخرفة التي تزين جدران قاعة العروض، و ما هي إلا لحظات حتى انطفأت الأنوار معلنة بداية العرض المسرحي، فقفز صديقي مندهشا و نظر إلي مجددا، فقلت له بصوت خافت : سيبدأ العرض. لكن التغير الجذري الذي طرأ على وجه صديقي ما إن انطفأت أنوار القاعة جعلني أنشغل بتتبع حركاته حتى أنني أهملت متابعة العرض المسرحي بصفة منتظمة، و هذا في محاولة لقراءة ملامحه و هو يتابع بشغف وشوق كبيرين أطوار هذا العرض التي لم يكن مهتما به قبل دقائق معدودات فقط. و على مدار أكثر من ساعة كان صديقي يتتبع العرض المسرحي بكل حواسه ، يتجاوب مع كل موقف، يضحك، يبكي، يصفق، يشارك في العرض بردود أفعاله على مختلف أحداث المسرحية، و يرد في بعض الأحيان على تساؤلات الممثلين. و أكثر من هذا تعلقه بالعرض المسرحي أنساه إدمانه المفرط على السيجارة. و عند انتهاء العرض المسرحي قام صديقي الذي كان تائها و متثاقل الخطى في بادئ الأمر بحماسة المحب الوفي يصفق و يهنئ الممثلين ، و لم يتوقف عن التصفيق حتى بعد أن غادر الممثلون الخشبة ليعودوا بعدها تحت تصفيقات صديقي التي كان لها دويا يميزها عن تصفيقات الآخرين. ثم نظر إلي و قال لي : إنها أجمل مسرحية شاهدتها في حياتي.. فابتسمت و قلت في نفسي بل هي الأولى في حياتك.. لم يتوقف صديقي عن الحديث عن العرض المسرحي حتى بعد ساعات من مغادرتنا للمسرح ، و لقد أذهلني مستوى الفهم الذي أبداه و هو يحلل أطوارها و يبدي رأيه في حبكتها، و في أداء الممثلين. كان يتحدث بلسان الأستاذ العارف و أنا أستمع إليه بآذان التلميذ المتعطش، ليقول لي في الأخير أظنني أنني اكتشفت أن لدي ميولا للكتابة المسرحية ، و سوف أتفرغ لها. وقفت مذهولا أمام هذا التصريح القوي، و تساءلت في قرار نفسي كيف حدث هذا؟ نعم لقد حدث، لا أخفي أنني كنت أصبو من وراء دعوتي لصديقي مشاهدة العرض المسرحي أن أغير موقفه من المسرح و لو بالشيء القليل، و لقد حدث. لكن حجم الحدث فاق كل التطلعات ، نعم عندما يستجيب المسرح لاهتمامات المشاهد و يبحث سبل إدراك متطلباته و رغباته ، و يسلك طريق الوصول إلى خصوصياته، فيجد المشاهد في المسرح المعبر الوحيد عن انشغالاته، و الناطق الأوحد باسمه، عندها تتأسس علاقة وطيدة بينهما يستحيل فكها ما دام الفاعلان وفيان لبعضهما البعض. هذا ما وجده صديقي خلال مشاهدته للعرض المسرحي ، فحوله هذا الاكتشاف من مجرد مشاهد غير مهتم إلى واحد من الجمهور الخاص و الوفي للمسرح، و ربما إلى أحد الفاعلين في الحركة المسرحية مستقبلا.