الفساد، هذا العنوان المقزز، لا يستسيغه أحد، حتى من ينغمس فيه إلى الأذنين، تشرئب جذوره وتتعمق فروعه بدون حدود، ويغزو العالم بدون توقف، ولا يقل خطرا عن الخراب البيئي الذي تقام المؤتمرات الدولية للتصدي له. كما أن الأصابع توجه للبشر بالمسؤولية عن التداعي البيئي فإن الفساد من صنع الناس أيضا: «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس». كما أنه ينخر المجتمعات والأمم من داخلها، فتتواصل أزماتها وتفقد سعادتها. أين هي رسالات السماء من هذا الإنسان المسؤول عن خراب البيئة الطبيعية والاجتماعية؟ والشرفاء من أبناء هذا الكوكب يشاطرون الملائكة في تساؤلهم القديم المتجدد: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ وكما أن الخراب البيئي متمدد ومرعب، فإن الفساد، هو الآخر، ظاهرة لا تنكمش، بل تتوسع باضطراد، وتستعصي على الفناء. إن الفساد كما تذكر الآية الكريمة يدفع البعض لليأس والقنوط من إمكان إصلاح هذا العالم برغم تضحيات الصالحين من البشر عبر العقود والقرون. وبرغم ما قطعته الإنسانية من أشواط في مجال مكافحة الفساد ونشر الإصلاح فان المضمار يبدو ممتدا بلا نهاية. هذا لا يعني أن أغلبية البشر فاسدة، بل يؤكد قدرة القلة الفاسدة على التأثير الواسع. فالمصلحون يخوضون معركة دائمة مع الفساد والانحراف والظلم، وهذا شرف لكل من يشمّر عن ساعديه لخوض غمار تلك المعركة. في الأسبوع الماضي استيقظ المجتمع البريطاني على إيقاعات جانب من ذلك الصراع، عندما كادت حكومة حزب المحافظين برئاسة السيد بوريس جونسون، تشارك عمليا في الفساد لولا الصرخة المدوية من السياسيين والإعلاميين. فبعد أن أصدرت لجنة برلمانية قرارها بإدانة أحد أعضاء حزب المحافظين الحاكم بممارسات لا تليق بمن يفترض فيه أن يمارس التشريع ويحافظ على القانون ويحمي مصالح الناس، استغلت الحكومة أغلبيتها البرلمانية لتعطيل ذلك القرار وقالت إنها تسعى لتمرير تشريع يساهم عمليا في تكريس الفساد، فحدثت ثورة صامتة لم يحدث لها مثيل مؤخرا. ووجد رئيس الوزراء نفسه مضطرا للتراجع عن قرار دعم النائب المدان. فهل هذا انتصار للعدالة حقا؟ وماذا يعني القرار الأول بدعم عضو برلماني مدان بالفساد؟ هل أصبحت الحزبية والفئوية من أسباب انتشار الفساد في بيئة يفترض أن تكون «ديمقراطيتها» سدا يحول دون انتشار هذه الظاهرة المدمرة؟ فمن هو الفاسد ومن المصلح؟ من المستعد للتخلي عن ذاته وانتمائه الحزبي أو القبلي عندما يحتدم الصراع ضد الفساد؟ أليست هذه «الديمقراطية» داعمة لانظمة الاحتلال والاستبداد والقمع والاضطهاد بعنون «المصلحة» و«الواقعية» و«العقلانية»؟ ألم تدعم النظام العنصري في جنوب أفريقيا عقودا؟ أليست ديمقراطيات «العالم الحر» أكبر الداعمين للاحتلال الإسرائيلي؟ ألا تسمح «الديمقراطيات» الغربية لشركات العلاقات العامة التي تتقاضى الملايين للعمل الرسمي من أجل تلميع صورة الأنظمة الفاسدة؟ ألا تسمح لأعضاء برلماناتها باستضافة الزعماء الذين تتهمهم شعوبهم بالظلم وانتهاك حقوق الإنسان؟ ما الهدف من الزيارات التي يقوم بها البرلمانيون لتلك الأنظمة وتمجيدهم وتقديم المشورة لهم، ليس لتطوير أنظمتهم السياسية بل لمنع نجاح معارضيهم من التأثير على وجودهم؟ وماذا عن مجموعات الضغط التي كثيرا ما تضم شخصيات كانت تحتل مناصب وزارية متقدمة؟ لماذا يسمح للمسؤولين الكبار والوزراء المتقاعدين بأن يعملوا موظفين لدى أنظمة حكم استبدادية؟ وماذا عن الرشوة التي تقدم بأشكال شتى لأهداف واضحة في مقدمتها التأثير على سياسات الدول؟ ثما ماذا ان أساليب التحايل على القانون من قبل كبارالأثرياء والشركات العملاقة للتهرب من دفع الضرائب بتسجيل الشركات في بلدان لا تشملها قوانين البلد الذي تنشط فيه تجارتهم؟ إن الفساد عنوان عام للانحرافات السلوكية والخروج على التشريعات بشكل عام، وليس محصورا بنهب المال العام أو التحايل أو الاختلاس أو الرشاوى. ومن المؤكد أن للضمير دوره في تسهيل الفساد أمام الفرد أو منعه، وهذا الضمير حين يرتبط بالإيمان الحقيقي يصبح أكثر ردعا عن الفساد لأن الإيمان يجعل الإنسان مرتبطا بإنسانيته وقيمها. ولكن الإيمان نسبي وكثيرا ما يكون مستهدفا من قبل النفس الأمارة بالسوء التي تدفع الإنسان نحو الطمع والجشع، ومن ثم الكذب والتحايل. كما أنه قد يكون سطحيا ولا ينفذ الى القلب. وثمة حقيقة يجدر تثبيتها وهي أن الإنسان هو الإنسان من حيث ضعف الإيمان واتباع الشهوات والعجز أمام الغرائز التي تدفعه نحو الفساد. ولا فرق هنا بين المسلم وغيره. فما أكثر الفساد المنتشر في عالم المسلمين. ومن أمثلة ذلك: أولا: الاستبداد والظلم السياسي والقمع والتعذيب، وهي ممارسات لا يقرها الدين أو الضمير الإنساني. ثانيا: الاستحواذ على المال العام من قبل المتنفذين في الهيئات السياسية. وما أكثر ما أشير بالبنان لحالة الفساد التي انتشرت في العراق منذ العام 2003، وهي حالة ربطت بالمجموعات الإسلامية التي رفعت راية «الإسلام السياسي». وليس المسؤولون في الدول المجاورة بمعزل عن الفساد. ثالثا: الاضطراب الذهني إزاء مفاهيم الولاء والبراء، فلا يمكن أن يكون هناك ولاء للمحتل أو المستبد أو الظالم أو السارق، أيا كان دينه أو مذهبه أو انتماؤه الإيديولوجي أو العرقي. فالولاية انما هي للمؤمنين الذين يجسدون قيم الله، وليس في سلوكهم فساد ملحوظ، شعوري أو مالي أو سياسي أو اخلاقي. ولا يمكن أن يكون التطبيع مع المحتل سلوكا مقبولا بل إنه فساد ظاهر يناقض مفهوم الولاء والبراء. رابعا: انعدام المساواة وتكافؤ الفرص يعني غياب انعدام العدالة أمام القانون، الأمر الذي يؤدي لتهميش العدل وتعملق الظلم، وهذا أحد وجوه الفساد والانحراف. خامسا: ظاهرة التمايز الطبقي ووجود فئات تملك كل شيء وأخرى لا تمتلك شيئا، فهذا أحد مصاديق الفساد لأن الاستقامة السياسية تتجسد من خلال التوزيع العادل للثورة والمساواة بين الناس في العطاء وفرص العمل والتعلم والعيش الكريم بدون خوف أو وجل من فقر أو حاجة أو تهميش أو استضعاف. ان انتشار ظاهرة الفساد في العالم من أهم أسباب غياب السعادة في المجتمع المعاصر، والحاجة المتواصلة للتقنين لمواجهة أسبابها. ولا يمكن فصل التلوث البيئي والتغير المناخي عن ظاهرة الفساد، كما يصعب فصل غياب الاستقرار السياسي والمجتمعي عن الظاهرة ايضا. فالفساد من أسباب انتشار ظواهر الفقر واليأس والإحباط لدى أغلب المجتمعات. ومن يقول أن المواطنين في بلدان «العالم الحر» يشعرون بالسعادة بعد أن اصبحوا أسرى للنظام المصرفي الدولي والشركات العملاقة. وبشكل تدريجي استطاعت مجموعات صغيرة، نتيجة استشراء الفساد في المجتمع الإنساني، بسط النفوذ على الشعوب. لقد ساهم الفساد في حرمان إنسان القرن الحادي والعشرين من الحرية الحقيقية وجعلته أسيرا لغيره، من حكام ومتنفذين وبنوك وشركات مالية واستهلاكية، وساهمت نزاته بدفعه لذلك المسار. وبدلا من السعي لإصلاح هذا الخلل البنيوي بالتصدي للفساد كمرض ينخر في جسد الإنسانية، تحول الى ظاهرة حولت الإنسان الى مخلوق عبثي همّه البحث عن لقمة العيش وتفادي التصادم مع ناهبي المال وسالبي الحرية والعابثين بأمن العالم. لقد أصبح هذا الإنسان في ظل الفساد المستشري في العالم يقضي عمره لاهثا لتوفير أسباب الحياة ومستلزماتها، وما لم يلتفت لنفسه ويصر على الالتزام بالقيم والأخلاق، فسيستمر لاهثا وراء سراب الحياة ووهمها وكأنه تجسيد لأوهام «دون كيشوت». القدس العربي