بقلم : الأسير المحرر ثائر عزيز حلاحله إنه ذاك الفتى الذي جلس يوماً في إحدى ساحات المسجد الأقصى الذي يئن من ظلم الاحتلال الصهيوني منذ سنوات، وعمره كان آنذاك لا يتجاوز 13 عاماً وهو يستمع لخطب كان يلقيها الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي مبشراً بما آمن به من أن فلسطين آية من القرآن، وأنها مركز الصراع الكوني بين تمام الحق وتمام الباطل؛ وأنها القضية المركزية للأمة الإسلامية والعربية.
وبدأ الفتى "أحمد نصر" يكبر؛ ويكبر معه الوجع والتساؤلات والأفكار، ويستمع لمحاضرات صالح عبد العال، عندما كان يلقي الخطب في مساجد الوطن، ويتحدث لهم عن جهاد المناضل المجاهد والداعية الشيخ عز الدين القسام، وعن خطب القسام في مسجد الاستقلال، ومنها العبارة المشهور (اشتري سلاحك بدلاً من رغيف الخبز)، وما قال القسام في خطبه الأخرى (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتني مثل هذه شاهراً من على وسطه مسدساً)، وكذلك خطب ودروس الداعية المجاهد الشيخ عبد العزيز عودة، إمام وخطيب مسجد الشهيد عز الدين القسام، في بيت لاهيا، شمال قطاع غزة.
كان والد الأسير المحرر "أحمد نصر" محبا للقراءة والمطالعة ومتابعاً لما تنشره الصحف عن الوضع العربي والإسلامي، ومنها الحدث الأبرز في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات، وهو انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وخروج قوات المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد اجتياح بيروت، والانشقاق الداخلي في داخل حركة فتح، حيث كان أحمد يلتهم ما يوجد في مكتبة والده ويطلع عليها.
التحق المحرر بعد نجاحه في الثانوية العامة بجامعة بيرزيت تخصص علم اجتماع، وكلنا يعرف حالة الانفتاح، وأن جامعة بيرزيت يسود فيها النقاش السياسي والفكري بين مختلف الاتجاهات، وهناك ازداد المحرر "أحمد نصر" اطلاعاً واحتكاكاً بالقوى والأفكار الأخرى والنقاشات مع "ادوارد سعيد، وسليم معاري، والطلبة القادمين من قطاع غزة، وهم من مشارب واتجاهات عدة، علمانية وماركسية ومن التيار الإسلامي بشقيه الإخواني والجهادي، وكان النقاش فيه عقلانية وحوار متزن، يُحسم فقط بالإقناع بعيداً عن التشيع، وبجوٍ من الانفتاح للوصول إلى المشترك.
قبل هذا، لمع نجم الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي مبشراً بما حمله من أطروحات وأفكار ثورية نالت إعجاب الكثيرين، علماً بأن الشهيد الشقاقي قد درس الرياضيات في بيرزيت، وكان يناقش ويحاور من داخل وخارج أسوار الجامعة، وبعد سنوات الدراسة الغنية والمطالعة والاطلاع على الأفكار، آمن "أحمد نصر" بما طرحه الشقاقي وعلى التحالف مع قاعدة التحرير والكفاح.
وبعد تخرجه من الجامعة، قرر أن يقوم بافتتاح مكتبة علمية ثقافية لبيع وتأليف الكتب، والاطلاع على أهم ما يصدر عن دور النشر المعتبرة في عالمنا العربي والإسلامي، رغم التضييق الصهيوني على إدخال الكتب من الدول التي لا تقيم علاقات مع هذا الكيان، حسب تعريفها لها، أنها دول معادية، ففي مكتبته التي تحوّلت قبلة للكتاب والمثقفين والقارئين من شتى أنحاء الوطن المحتل وخارجه، وبالتحديد من الأردن لقربه منها حدوديا وجغرافيا ، فكانت كتابات "محمد مورو" وراشد الغنوشي، ومالك بن نبي، وبعض كتابات المفكر الإيراني علي شريعتي، ومحمد عمار وجارودي، إلى كتابات وشعر أحمد مطر وشعر محمود درويش، ومحمد إقبال، وصافيناز كاظم، والعشرات من الكتاب في الوطن أمثال د. عبد الستار قاسم وكتابه الطريق للهزيمة، وعادل سمارة وكتاباته عن الاقتصاد، وأحمد قطامش وكتاباته عن المرأة، كتابات نصيف معوض عن سيد قطب، والعديد من الكتب والمراجع والدراسات الفكرية والتحليلية وكتابات وروايات الأديب الفلسطيني والأسير المحرر وليد الهودلي، وقصة ستائر العتمة، وأبو هريرة وعائشة، وغيرها. وفي ظل هذا العالم من المثقفين والقراء الإعلاميين والكتب والكتاب، كان يعيش "أحمد نصر" حياته ويمضي جل أوقاته. ولنشاطه السياسي، تعرّض للاعتقال أكثر من مرة، وجزء من التهم التي وجهها له الاحتلال، نشر كتب ومواد تحريضية وأيدولوجية، وتجنيد آخرين وتقديم الدعم لهم. وكان بمجرد دخوله السجن، أو القسم، يذهب مباشرة للمكتبة ليرتبها وينظمها ويطلع على ما فيها من قديم وجديد، ومن ثم يأخذ ما يلزمه للقراءة والمطالعة وبعض الكتب التي ينصح الأسرى أن يقرؤوها، ويعمل لهم نظام للقراءة والمطالعة حتى لا يتم تشتيتهم في المطالعة والتدخلات في الأفكار والمفاهيم، أي ترشيد القراءة لهم، خاصة أن الأسرى من الجيل الصغير والجديد على الاعتقال والسجن، فهو قارئ من طراز أول يقرأ لساعات وينام ساعات لا يأكل إلا القليل يشرب القهوة بشراهة لا يدخن، على يديه تعلمنا القراءة السريعة المفيدة، وكان يقرأ في اليوم في الأسر المئات من الصفحات، وأتناقش أنا وهو وبعض الأسرى فيما قرأنا له قراءة خاصة وبعد نظر وتحليل خاصة في فهم الأفكار والأشياء يؤمن بالمرونة في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، لا يحب التشدد، كان مائلا للتصوف وصائما للنوافل لا يعادي من يخالفه الرأي، أكثر ما يميز هذا الرجل الذي يدير مركز "يافا" للدراسات والنشر والتوزيع في رام الله، وله عديد الكتب التي تم جمعها، هو إنسانية هذا الإنسان ومشاعره وحسه المرهف، سريع الدمعة عندما يذكر أمامه شهيد أو أسير أو عائلة منكوبة أو فقير أو محتاج، لقد شاهدت ذلك أمامي في الأسر وفي خارجه، كان يتخلى عن ما لديه من مصروف في الأسر للأسرى الفقراء والصغار، والذين يعرف ظروفهم الصعبة، ويحن ويشفق عليهم.
في إحدى المرات كان جالساً عندي في (قسم 3)، وهو قسم مخصص فقط للأسرى المعتقلين تحت مسمى الاعتقال الإداري في سجن النقب الصحراوي في قلعة الخيام المعروفة باسم (الآبار) ومجموعة من الأسرى الأصدقاء كنت أتحدث عن الشهيد القائد أسعد دقة، وهو من بلدة عتيل في شمال الضفة المحتلة أسير أمضى سنوات من الأسر والمطاردة، وعن التزامه وشجاعته وقوة شخصيته، وأنا لا أعرف أن "أحمد نصر" صديقاً له ودرسا معا في جامعة بيرزيت، وإذا به يبكي بكاءً فيه الصدق والحرارة والحسرة والإخوة الصادقة، هكذا هو الأسير المحرر "أحمد نصر" المعروف بأبا الحسن، الملقب بالحطب، إنه الصديق والرفيق والأخ في الأسر والقراءة، ولازال الأسير المحرر على عهد القراءة والمطالعة متنور الفكر ومرن في التعامل، وهو من بلدة كفر نعمة المعروفة بعطائها وشهدائها دفاعا عن الوطن ومنهم معاذ زراع والشهيد رياض فخري خليفة الذي تمكن من الهروب من سجن عوقر بعد أن قام ورفاقه بحفر نفق، وتم مطاردته لفترة حتى استشهد في كهوف بلدته وهو رفيق درب "أحمد نصر".
"أحمد نصر" الأسير المحرر، أيها المثقف الواعي في زمن تاه فيه المثقفون، وصار قلم البعض مأجورا، سر على بركة الله، لا تترك الكتب إلا للضرورة.
لك العمر والصحة والتوفيق، ابقى مرددا المقولة الخالدة (المثقف أول من يقاوم وآخر من ينكسر)، ومقولة (اقرأ تم اقرأ حتى لو ذهب نور بصرك)، السلام عليك وعلى رفاقك من الشهداء والأسرى والقراء والمثقفين المنحازين لوطنهم وأمتهم وللفقراء والمضطهدين، والحرية للأسرى.