من الملاحظات التي يمكن استخلاصُها من الانتخابات الماضية، عدم وجود دور فعال للمثقّفين، إِنْ على مستوى الترشّح وافتكاك المراتب الأولى على رؤوس القوائم، أو على مستوى المشاركة في الحملة الانتخابيّة والظهور في وسائل الإعلام، أو حتى على مستوى وضع البرامج وقوة اقتراح الأفكار.. لقد كان حال المثقفين كحال مَنْ قال فيهم الشّاعر: وَيُقْضَى الأمْرُ حِينَ تَغِيبُ تَيْمٌ…. وَلَا يُسْتَأْذَنُونَ وَهُمْ شُهُودُ وقد تكرّسَ هذا الأمر منذ مدّة طويلة، حتى أصبح النّاس لا يثقون في المثقفين، ويتناولون بالنقد كل مثقَّفٍ يصل إلى السلطة، لأنهم تَعَوَّدوا على رؤيته لا يلعبُ إلا (دور الكومبارس) وقلّما حدث لديهم أن رَأَوْا مُثَقَّفا وصل إلى موقع هام وقام بتغييرٍ يَليقُ بحجمه وبرسالته.. ولذلك تَعَوَّدَ النّاسُ على ترديد مقولة: "السّلطةُ في الجزائر لا تَرَى في المُثَقَّفِ إلا ظَهْراً يُرْكَب، والمثقَّفُ لا يَرى في السُّلطة إلا ضرْعاً يُحْلَب" حتى أصبحتْ هذه العبارةُ حِكْمَةً شعبيّةً بامتياز، تُعَبِّرُ على الدور السّلبيِّ أو المُفْرِطِ في البراغماتيّة للمثقّف، الذي يرى فيه البعضُ انتهازيّةً لا تليق برسالته.. إنّ نقطة الضّعف الأساسيّة لدى المثقف الجزائري تكمن في عدم قدرته على التّأثير الفعلي في الواقع، وفي افتقاده إلى القدرة على النزولِ إلى الميْدان والاهتمامِ بالشّأن العام ومغادرةِ الأبراج العاجيّة.. إذا استثنينا بعض الحضور المحتشِم، من خلال مبادرات فرديّة لبعض المثقَّفين في وسائل التّواصل الاجتماعي، فإنّ المثقفين لا حضور لهم خارج المدرّجات الجامعيّة ومخابر البحث.. هذا إذا افترضنا أنّ لهم إضافاتٍ في الجامعات وفي البحث العلمي الذي يبقى هو الآخر يخضع للمبادرات الفرديّة ولا يستند إلى رؤية منهجيّة ذات بعد وطني وبعيدة المدى… الحقُّ أنّ كثيراً من المثَقّفين الجزائريين يمتلكون ثقافةً فلسفيّةً نظريّةً عالية، ولكنّهم لا يلعبون أدوارا مؤثّرة في المجتمع، حيث لا بدّ من مُؤَهِّلات لتحويل النظريّات إلى أفكار واقعيّة واستخلاص برامج عمليّة قابلة للتطبيق وتكون فاعلة في الميدان.. إنّها فكرة الفاعليّة التي طالما أثارها مالك بن نبي (فقد تكون الفكرةُ سليمةً ولكنّها ليست فعّالةً لأسباب كثيرة، والعكس..) ثمّ لابُدَّ من القدرة على التّأثير والتّواصل، وتبسيط الأفكار النّظريّة حتى يفهمها غالَبيَّةُ الناس، ويتأثرون بها لِيَتَبَنَّوْهَا بعد ذلك..المشكلةُ عند المثقّفين الجزائريين أنّهم حبيسو المستوى الأول.. مستوى الثقافة النظريّة التي لا تصافح الناس إلا بالقُفَّازات البيضاء، ولا تنزل من الأبراج العاجيّة.. ولذلك تجدهم لا يكتبون إلا لزملائهم وأمثالهم من المثقَّفين الرسميين أو بعض الذين تربطهم بهم صِلاتٌ شخصيّة، ولا يقرؤون إلا لبعضهم..والنتيجة أَنْ وَجَدْنا قوائمَ انتحابيّةً تتصدّرها كلُّ الشرائح، حتى من ذوي المستوى المتواضع.. بينما لم نجد على رؤوسها للمثقفين حضورا يذكر!.. قال لي أحد الأصدقاء من المثقَّفين مازحا: ننتظرُ لعلّه يَصْدُرُ قانونٌ يَفْرِضُ لنا نِسْبةً على رؤوس القوائم الانتخابية، مثل ما حدث في قانون ترقيّة المرأة الذي حدّد حِصَّةً مُعْتَبَرَةً للنّساء، فلننتظر قانوناً آخر لترقيّة المثقَّفين يَفرِضُهُم على رؤوس القوائم!..الحقّ أنَّ هذه النّكتَةَ مُعَبِّرةٌ رغم مرارتها، فلا يُشْبِهُ التّهميشَ المسلَّطَ على المرأة في المجتمع إلا التَّهميشُ المسلَّطُ على المثقّفين، الفرق فقط أنّ التّهميشَ المسلَّطَ على المرأة سببُهُ التّقاليدُ الباليّةُ وبَداوةُ المجتمع، بينما التّهميشُ المسَلَّطُ على المثقّفين سببه السِّلبيّةُ الذَّاتيّةُ والتَّقوقُعُ والنّرجسيَّةُ وفقدانُ الفاعليّةِ الواقعيّة..