هي سيدة جزائرية تجاوزت عقدها الخامس وموظفة سامية بإحدى الهيئات الدولية، لم تكن عائلتها تظن أنها ستصاب بداء الزهايمر وهي في أوجّ عطائها، فقدت المسكينة كل شيء في رمشة عين ولم تعد تتذكر حاضرها ولا ماضيها، تلك حالة من بين عديد حالات الزهايمر التي رصدناها ونحن نقوم بعملنا هذا الذي سنسلط الضوء فيه على واقع الداء عند عائلات لمرضى ليسوا كالآخرين.. إنه داء الزهايمر أو ما يعرف عند العامة ب”الخرف”، الذي بتنا نقف على انتشاره الواسع في أوساط نسبة معتبرة من كبار السن الذين تجاوزا ال60 عاما، ما حوّل يوميات أسرهم ككل إلى جحيم وليس المصاب المسكين فقط، حسب ما أكده بعض أبناء وبنات هؤلاء الأشخاص المصابين، علما أننا بتنا نشهد في الآونة الأخيرة إصابة أشخاص وهم في أوجّ عطائهم، وتلك حالات أكد مختصون في أمراض الأعصاب أن لها صلة بجينات عائلية. من بين من التقيناهم ونحن نحقق حول مخلفات داء الزهايمر أبناء السيدة ”جميلة 72 سنة”، التي أصابها المرض منذ أكثر من 5 سنوات، حيث لم تعد تتذكر شيئا من حياتها، بل نست حتى أسماء أبنائها، وباتت كالطفل الذي تتوجب مراقبته على مدى 24 ساعة كاملة، خاصة وأنها لا تخلد للنوم ليلا أو نهارا حتى يجبرها أبناؤها على المكوث بفراشها ساعتين على الأكثر تستيقظ بعدهما أكثر حركة. وعن يومياتهم مع مرض الوالدة أكد أربعتهم أنهم باتوا يتناوبون على حراستها ليلا نهارا خاصة وأنهم باغتوها عديد المرات، تهمّ بالخروج من المنزل كما أن جيرانهم أرجعوها من الشارع مرتين ليقرروا بالتالي تكثيف الرقابة عليها، ”اضطررنا إلى اللجوء للعطل المرضية لكي نبرّر غياباتنا من العمل”، تقول ابنتها إطار بإحدى الشركات الوطنية، مضيفة أن مختلف الأدوية التي نصحهم بها مختصو أمراض الأعصاب لم تنفعها. وعن هذه النقطة أكد البروفيسور إسماعيل داود، رئيس مصلحة أمراض الأعصاب بمستشفى تيزي وزو الجامعي، أن غالبية الحالات التي ترد مصالح أمراض الأعصاب تصل في وقت متأخر يكون فيه الداء قد استفحل، وتكون خلايا المخ عندهم قد انطفأت. يصاب بالزهايمر بعد تلقيه صدمة قوية ويظهر أن حالات الزهايمر لا تقتصر على كبار السن فقط، والذين أكد مختصون في أمراض الأعصاب أنهم معرضون أكثر للداء، خاصة إذا كانوا يعانوا من أمراض أخرى، اعتبرها البروفيسور داود أحد مسببات الزهايمر ومنها السمنة وداء السكري وارتفاع الضغط الشرياني، بل هناك حالات زهايمر حدثت بعد تعرض صاحبها لصدمة قوية في حياته. ومن بين هؤلاء ”صالح” ذو ال55 سنة والذي تعرض لمشكل في مجال عمله دخل على إثره السجن مدة أسبوع صدر بعدها حكم ببراءته، لكن عدم تقبل ”صالح” لما حدث له وتأثير الصدمة القوية عليه كانت آثاره وخيمة، حيث خرج من سجنه الذي لم يدم أكثر من أسبوع مصابا بالزهايمر، حيث لم يعد يتذكّر أي شيء في حياته، لا اسمه ولا حتى زوجته وأبناءه، وعن هذه الحالة أكد البروفيسور كاشا فريد، رئيس مصلحة الأمراض العقلية لمستشفى الشراڤة المختص بالعاصمة، أنها من بين عشرات الحالات التي تعني أشخاصا مهيئين لمثل هذه الإصابات مشيرا إلى أنه عادة ما يستقبل في معاينته اليومية أشخاصا يعانون من اضطرابات في الذاكرة، يقصدونه لتخوّفهم من تطوّر حالتهم إلى ”زهايمر”، خاصة من تعرض منهم لانهيارات عصبية أو حالات أرق. حالة أخرى حدّثنا عنها أحد أطباء الأعصاب عرضها عليه أحد زملائه، ويتعلق الأمر بصغير لا يتعدى ال8 سنوات من عمره، نجا بمفرده من حادث سيارة مات فيه والداه وإخوته الثلاثة، وبعد مرور فترة كان يرفض الصغير الذي تكفّل به عمه الكلام إطلاقا، استرجع عافيته وحياته العادية لكنه لم يعد يتذكّر تماما الحادثة التي وقعت له، بل ونسي أنه كان له أبوان وإخوة في يوم من الأيام. وهي الحالة التي أكد بشأنها البروفيسور كاشا أنها عطل ”انسداد” بسيكولوجي ذو علاقة بحوادث جد مؤلمة، وفي هذه الحالة يمكن للطبيب النفسي أن يساعد المريض على استعادة ذاكرته عن طريق متابعة نفسية تمكّن الشخص من استعادة ذاكرته، خاصة وأنه ”تعمّد عن قصد نسيان الحادثة المؤلمة التي وقعت له، وبالتالي فهو يرفض تذكّر أشياء مؤلمة حدثت له”، يقول كاشا. هل يمكننا أن نحارب داء ”الزهايمر”؟ سؤال طرحناه على مختصين في أمراض الأعصاب والأمراض العقلية وجاءت إجاباتهم متشابهة، حيث أكدوا على أن الحل يكمن في تمرين العقل بصفة مستمرة، لنحارب الداء أو نؤخّره على الأقل. وعن هذه التمرينات التي باتت معتمدة في أوساط كبار السن بالدول الأوروبية، أوضح البروفيسور داود أنها ممثلة في حل شبكات الكلمات المتقاطعة وكذا ألعاب الفيديو، كما أن هناك نظاما غذائيا معين من شأنه الوقاية من داء ”الزهايمر”، والمتمثل في الأسماك والأغذية الغنية بفيتامين ”ه” وكذا زيت الزيتون. كما تطرّق محدّثنا لأهمية العلاقة الجيدة والطيبة بين الأجداد والأحفاد، والتي من شأنها أن تساعد على التواصل الجيد بين الأجيال، وتضمن سلامة كبار السن في ظل التكفّل الجيد بهم. العائلة لا تتخلّى عن مرضاها عن واقع التكفل بمرضى الزهايمر بالجزائر، أكد داود أن المعاينات المخصصة للداء بدأت منذ 10 سنوات على مستوى مصالح طب الأعصاب، كما تعمم التكفل الطبي بمرضى الزهايمر منذ سنة 2006 بفضل فتح وحدات متابعة على مستوى مستشفيات مختلف أنحاء الوطن، ”لكن المؤسف- يقول محدّثنا- هو أن غالبية مرضانا يصلون وحدات المتابعة في وقت متأخر يكون فيه الداء قد استفحل”. لكن الميزة الحسنة التي تتسم بها كل العائلات الجزائرية التي تحصي مرضى بالزهايمر، يشير البروفيسور داود، ممثلة في حرص هذه العائلات على الاحتفاظ بمرضاها ورعايتهم، يحثّهم في ذلك وازع ديني محض، خلافا لما يحدث بالمجتمعات الأوروبية التي تتخلى عن مرضاها لصالح مراكز رعاية المسنين. ويبقى أن نشير أنه ليس أمرّ من أن يرعى أبناء آباءهم المصابين بالزهايمر، وهو ما أشارت إليه سيدة شابة تعاني والدتها من هذا المرض الذي وصفته ب«هادم اللذّات”، قائلة ”ألعن اليوم الذي أصيبت فيه والدتي بهذا المرض لأنها لم تعد تتعرّف علينا ونحن فلذات كبدها..”. معاناة ذوي المصابين بالزهايمر غياب التشخيص المبكر والتكفل بالمرضى يؤرق العائلات يعاني مرضى الزهايمر في الجزائر حالة من الإهمال العام بسبب غياب المؤسسات الصحية المؤهلة للتعامل مع هذه الفئة، والحال أن معاناة هذه الشريحة من المرضى المزمنين في بلادنا تنتقل لذويهم ممن يجدون أنفسهم أمام حالة مرضية صعبة، تتطلب التفرغ التام للتكفل بالمريض. ومع أن الإحصائيات الرسمية تشير إلى ارتفاع حالات المصابين بمرض الزهايمر في الجزائر، إلا أن السلطات الصحية لم تواكب هذا الارتفاع، إذ كشفت الاحصائيات عن تجاوز المصابين بهذا الداء لأكثر من 100 ألف شخص، بحسب الإحصائيات التي توصلت إليها الجمعية الجزائرية لمرض الأعصاب في الجزائر. ومع أن الرقم، وفقا للمختصين، مرشح للارتفاع إلا أن التكفل بهذه الشريحة ما يزال يعاني من نقص حاد، سيما في طرق التكفل بهم، سواء تعلق الأمر بالكشف المبكر للمرض أو التكفل بهم في المنازل، باعتبار أن المستشفيات لا تقبل بهم نزلاء لعدم إدراجهم في أي خانة من المرضى الذين يستوجبون البقاء في المستشفى، فيما يرى خبراء طب الأعصاب أن التكفل بمرضى الزهايمر اختصاص غير متوفر في الجزائر ومنعدم تماما، مثلما أكده البروفيسور سلام عبد الرحمن، طبيب الأمراض العصبية، الذي اعتبر أن التكفل الوحيد الذي توفره المنظومة الصحية في الجزائر لمرضى الزهايمر تكمن في توفير الدواء، مضيفا إلى أنها وإن كانت خطوة مهمة إلا أنها لا تكفي، باعتبار إمكانية التقليل من عدد المرضى في حال توفير آليات الكشف المبكر للمرض، وبالتالي الحد من آثاره على المريض وذويه على حد السواء: ”اليوم هناك تقنيات يمكن لكل المرشحين بالإصابة بمرض الزهايمر كفيلة بالحد من آثار المرض وجعل المريض قادر على التواصل مع محيطه، غير أننا للأسف في الجزائر نكتشف المرض حين يبلغ مرحلة متقدمة يكون فيها المريض فقد الوعي بذاته، وأصبح غير واع لمحيطه، وهذا ما يصعب المهمة بالنسبة للعائلة التي تكفل المريض”. بهذا الخصوص، تشير السيدة فضيلة، وهي أربعينية أصيبت والدتها البالغة من العمر ثمانين سنة بمرض الزهايمر، إلى أن المؤسسات الصحية في الجزائر بقطاعيها الخاص والعام لم تتمكن من تحديد مرض والدتها في وقت مبكر، على اعتبار أنه تم توصيف إصاباتها على أنها حالة من الانهيار النفسي، مع العلم أن مؤشرات النسيان والغضب السريع والصمت المفرط بدأت بمجرد بلوغها سن السبعين، ليتم كشف الزهايمر سنوات بعد ذلك لتكتشف العائلة فوات الأوان على التدابير الوقائية، بعدما لم تعد الوالدة قادرة على التكفل بنفسها حتى فيما يتعلق بأبسط الحاجات اليومية، على غرار النظافة الشخصية والأكل وما إلى ذلك. أمام هذه الحالة تقول السيدة فضيلة إن كل العائلة وجدت نفسها رهينة هذه الحالة المرضية بالنظر لضرورة تواجد شخص قريب من الوالدة المصابة بمرض الزهايمر، وذلك على طوال ساعات اليوم والليل، وهو ما اضطرها لترك العمل وتمريض والدتها، وتكشف السيدة فضيلة أنها بعد سنة من التمريض اكتشفت أنها قطعت هي الأخرى علاقتها بالعالم الخارجي بشكل شبه كلي، ما أدى إلى إصابتها هي الأخرى بحالة من الانهيار العصبي ”ليس من السهل أن تجد نفسك مضطرا للتعامل مع حالة مرضية على مدار السنة”، مثلما تؤكده في حديثها ل«الخبر”، وتضيف أنه ”أكثر ما يؤرق عدم توفر جهات مختصة لتوعية ذوي المريض بالتأثيرات الجانية وطرق التعامل مع المرض، وحدها الأنترنت كانت الوسيلة للتعرف على تقنيات التعامل مع والدتي، وقد سمحت مواقع التواصل مثل الفايسبوك بتشكيل ما يشبه شبكة لعدد من عائلات المصابين، حيث نتبادل التجارب والحق أن في مثل هذه المبادرة الكثير من العزاء، إذ تشعر أنك لست وحيدا في هذه المأساة”. وتواصل السيدة فضيلة سرد قصة معاناتها مع مرض والدتها بالقول إنه إلى غاية فترة قصيرة ماضية لم يكن هناك أي تواصل مع ذوي المرضى والهئيات الصحية المعنية، إلى أن تم إنشاء جمعية بمعية البروفيسور بن ديب، المختصة في هذا المرض بالمؤسسة الاستشفائية نصيرة نونو في العاصمة، والتي وجد الكثيرون فيها الملجأ للتعرف على كيفية التكفل بالمرضى، في ظل غياب مؤسسات صحية محترفة تقوم بهذا الدور، ”لأنه لابد من التأكيد على أنه مهما بلغ تفانينا في التعامل مع مرضانا يبقى أن المرض يتطلب خبرة مهنية علمية لا نتوفر عليها، لذلك لابد لوزارة الصحة والمعنيين عموما أن يدركوا أن هناك جزائريين في حاجة إلى من يتكفل بهم صحيا، لأن الشيخوخة لا تعني التفريط في حقوق هذه الشريحة من المرضى، حتى وإن لم يتعرفوا على محيطهم. يكفي أن نتذكر نحن أنهم آباؤنا الذين تعبوا من أجلنا ولا بد من الاعتناء بهم على أكمل وجه، حتى وإن كانت المهمة صعبة وشاقة بسبب غياب التكفل الرسمي”.