يعتبر المصور الذاكرة المرئية لأي حدث، خاصة في زمن غابت فيه الفضائيات، وشحت فيه صور الكاميرا، فتبقى آلة التصوير تحدثنا عن ذلك الحدث والمكان والناس بصدق اللحظة.. اقتربت “الخبر” من أقدم مصوري مهرجان تيمڤاد الدولي، لتفتح معهما سجل الذكريات .. “عمي حرودة و”عمي دحمان”، يتحدثان عن علاقتهما بآلة التصوير والمهرجان بكثير من الحنين والحسرة. كانت البداية مع “عمي حرودة”، حيث تنقلت “الخبر” إلى مدينة تيمڤاد للبحث عن أكثر من ارتبط اسمهم بحضور المهرجان، فكانت الإجابة موحدة بين عدد كبير من الناس، قائلين: “إنه شخص مسنّ قليلا، يقارب الستين سنة، ذو شعر طويل، قصير القامة، لا تكاد آلة التصوير تفارق يديه طيلة سنوات ماضية “، وما كان منا سوى أن انطلقنا للبحث عنه، لنجده في زاوية بالخيمة التي تتوسط الفناء المقابل لمداخل المسرح الثلاث، كان منهمكا في التقاط الصور كعادته، لم تغيّره السنوات، ولم تؤثر على نظرته، ولا على عشقه لآلة التصوير، إنه “عمي حرودة” الذي يلخّص لون شعره الأبيض مسيرة ربع قرن من أرشيف مهرجان تيمڤاد. عدسة عمي “حرودة” تراقص المهرجان لربع قرن ما إن اقتربنا من عمي حرودة وتحدّثنا إليه، حتى أدركنا أنه ذاكرة حية لمهرجان تيمڤاد الدولي على مدى ربع قرن من الزمن، وشاهد عيان على التغيرات التي مرت على طبعاته بالركح القديم والجديد على حد سواء، فلا تكاد آلة التصوير تفارق يده العاشقة للحظة، ولا يخلو مشهد من مشاهد المهرجان إلا وتكون بصمة صور “بن مدرو محمد” والمدعو لدى سكان المنطقة بعمي “حرودة”، بابتسامة لم تفارق محياه ممزوجة بروح الدعابة، فتح معنا عمي حرودة سجلات الماضي والآمال المعلقة على المستقبل. أخبرنا عمي “حرودة” أنه طيلة 25 سنة، وهو يعايش سهرات المهرجان الفنية ويومياته الدسمة بالمعارض التقليدية، حيث قضى عقدا من الزمن كمصور هاو تداعب أصابعه زر آلة التصوير، قبل أن يرتبط بعد ذلك بعقد مع الولاية لغاية الآن، ويعود سبب ذلك، حسبه، إلى إعجابهم بصوره الخاصة بمختلف المناطق السياحية والأثرية والثقافية. لم يخف عمي “حرودة” انزعاجه من الوضع الذي بات يشهده المهرجان خلال السنوات الأخيرة، بسبب العزوف الواضح للجمهور. يا حسرة على زمان.. كنا نقيس العشق بالكيلومترات ويتذكر عمي “حرودة” كيف أن شباب المناطق المجاورة في ثمانينيات القرن الماضي كانوا يأتون من قرى”واد الطاقة” المعروفة بتسمية “بوحمار”، مشيا على أقدامهم في ظل غياب كلي لوسائل النقل، حبا للمهرجان وعشقا للأسماء الفنية التي كانت تحيي سهراته حينها، يقول “كنت ألتقي بهم بين مدينتي عيون العصافير وتيمڤاد، متجهين لقضاء سهرات غنائية تنوعها كان بتنوع طبوع أرض الوطن”. مضيفا “ناهيك عن السياح الأجانب الذين كانوا بدورهم يحضرون خصيصا من أجل عروض الصناعات التقليدية، التي كانت تقام على هامش المهرجان آنذاك”، و يغرق “عمي حرودة” في الذكريات، حين كان يشاهد السياح الأجانب وهم يتهافتون على اقتناء المنتوجات والمعروضات المحلية بشكل كبير، تلك القطع تمثل تاريخ منطقة الأوراس العريق. عاد عمي “حرودة” للحديث عن مهرجان تيمڤاد حاليا بكثير من الحسرة والألم، خاصة مع استمرار عزوف الجمهور في كل سنة عن حضور سهرات المهرجان، بالرغم من استقدام أسماء فنية كبيرة سواء على المستوى العربي أو الغربي، وقال إن ذلك نتيجة سلوكيات بعض الشباب، عكس ما كان في السابق، مما خلق نفورا وحساسية لدى العائلات، مالاحظناه خلال السهرة الثالثة، عندما صعد أحد الحضور الشباب أمام مرأى من رجال الأمن على الركح، وقبّل المغني ورقص معه ثم نزل، متسائلا عن دور رجال الأمن في الحفاظ على السير الحسن للمهرجان، قائلا “رغم أنه في اليوم الأول كان الدخول مجانيا والأبواب مفتوحة، غير أن المدرجات بقيت طيلة السهرة خاوية على عروشها”. ويأمل عمي “حرودة” أن يتغير الوضع إلى أفضل وتعود الحياة إلى المهرجان والمنطقة السياحية ككل، ولأجل ذلك يرى بعين الفنان والمجرّب والمصور، أنه لإعادة إحياء وبعث المهرجان وطنيا ودوليا من جديد، يجب أن لا تقتصر تنقلات الفنانين بين الفندق والركح، بل يقوم المشرفون على المهرجان بتنظيم رحلات سياحية وجولات بالمناطق السياحية التي تزخر بها الولاية وما أكثرها، وهو ما سيساهم في التعريف بها، إضافة إلى إعادة الموروث الثقافي إلى الواجهة، من خلال المعارض التقليدية على اختلاف مشاربها وبرمجتها طيلة العام، دون اقتصارها فقط في فترات معينة تكاد تغيب وتختفي عن عشاقها سواء المحليين أو الأجانب. نترك “عمي حرودة” مع آماله وأحلامه الوردية، في أن يرى مهرجان مدينته السياحية الجميلة، مهرجانا عالميا تتحدث عنه كل الألسن، لنحطّ الرحال عند عين أخرى، وعدسة أخرى ،وقلب آخر رافق المهرجان منذ سنوات، وكان شاهدا على أفراحه وآلامه ونقل بآلة تصويره لحظات تألقه وأوقات فراغه وهبوط أسهمه. “عمي دحمان “ عاش مع مهرجان تيمڤاد منذ 1979 رغم ثقل السنين وتجاوزه عتبة الستين سنة من العمر، إلا أن دحمان بوزيد المعروف ب«عمي دحمان “ كما يحب الجميع مناداته، لا يزال ينبض نشاطا وحيوية، وكأنه في العشرين من العمر، رغم نحافة جسمه، إلا أن آلة التصوير لا تكاد تغادر يديه، دائمة الحضور معه، أين ما حل أو ارتحل، كيف لا وهو الذي عادة ما يبدأ عمله من الخامسة صباحا، ولا يدري متى يعود إلى بيته، لملاقاة أهله وأبنائه الستة، الذين كثيرا ما تركهم نياما وعاد من عمله ووجدهم كذلك، لكنه بالمقابل يقول أنه أعطى لمهنته كل عمره فأعطته حب الناس واحترام كل من عمل معهم لحد اليوم . يعود “عمي دحمان “ بنا إلى أولى السنوات التي دخل فيها عالم التصوير، والتي تعود إلى سنة 1973 بعد أدائه الخدمة الوطنية، حين التحق بمحل تصوير يملكه صديق له، فاشتغل عنده قبل أن يلتحق بالولاية كمصور في خلية الإعلام منذ سنة 1979، حيث يتذكر أنه عمل طيلة هذه السنوات مع ثمانية ولاة، ولم يتخلف يوما عن رصد كل صغيرة وكبيرة. تحدث”عمي دحمان “ بكثير من الحنين عن أولى خطواته في مهرجان تيمڤاد الدولي، مباشرة بعد التحاقه بعمله الجديد في الولاية، ومنذ ذلك الحين لم ينقطع عن طبعات المهرجان حتى اليوم، ورغم مرور السنوات، إلا أنه لا يزال يحن لثاموڤادي القديمة، حينما كان المهرجان يقام في المدينة القديمة بين الآثار الرومانية، عكس المسرح الحالي، الذي، حسبه، أفقد المهرجان بريقه. يعود “عمي دحمان” بذاكرته إلى تلك السنوات الأولى، فيقول “تشعر حينما كان المهرجان يقام في المسرح الروماني وكأنك تعيش في ذلك الزمن، من خلال اللباس الروماني للمضيفات وهن بجوار تلك الأعمدة التي تضيء الركح”، ثم يواصل بكثير من الحسرة “أما اليوم فالمهرجان فقد الكثير من بريقه وملامحه التي اشتهر بها”. كما تحدث عن أهمية المهرجان بين الأمس واليوم، حيث لم ينس “عمي دحمان” كيف كان الترويج لمهرجان تيمڤاد يتم في تلك الفترة عبر الولايات المجاورة، رغم عدم توفر الإمكانيات التكنولوجية التي نعرفها اليوم، ومع هذا يقول “كان للمهرجان صدى كبير وحضور من كل أصقاع البلاد، عكس الآن فالحضور في كثير من الأحيان يقتصر فقط على سكان باتنة وبعض الفضوليين من الولايات المجاورة” . حين تجمدت يداي على آلة التصوير وهو أمامي.. لكل مصور عاداته ومزاجه و”عمي دحمان” مزاجه القمر فهو يعشق الأبيض و الأسود، وعن سر عشقه للصور بالأسود والأبيض قال: “صور زمان كان فيها إبداع الإنسان واضح، أما اليوم فالآلة قتلت الإبداع، فلا تسبقوا الزمن فليس كل من يحمل آلة تصوير مصور. أتاحت مهنة مصور الولاية ل«عمي دحمان” أن يقف أمام الرؤساء والشخصيات الوطنية والفنانين ويتذكر الكثير من اللحظات الجميلة والأسماء الثقيلة التي سبق وأن تعامل معها عن قرب والتقط لها صورا تبقى في الذاكرة، وقال وكأنه يعيش اللحظة ذاتها “لعل صورة وديع الصافي وهو أمامي من أكثر الصور التي تستوقفني حين أخذتني الدهشة للحظات قبل أن أستعيد توازني وأقوم بتصويره” .. مبتسما وهو يتذكر بحب وحنين “فعلا كانت لحظات رائعة، حين تجد أمامك قامة من قامات الغناء العربي وتقوم بتصويره، لقد كان حلم حياتي أن أراه عن قرب وتحقق ذلك بفضل عملي بالمهرجان”. قال “عمي دحمان “ إنه كان سعيدا بأن رافق كل الرؤساء الذين زاروا باتنة على مدار سنوات عمله، بداية من المرحوم الشاذلي بن جديد إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وأيضا كل الشخصيات التي زارت الولاية في هذه الفترة التي كنت فيها مصورا للولاية. ولآلات التصوير دموعها الحارقة .. لا يعتقد الناس أن مهنة التصوير تنقل صور الأفراح والأعراس والمهرجانات والرقص والغناء، فقد تبكي آلة التصوير لهول ما تلتقط كصاحبها، فهناك لحظات الوداع، هناك لحظات الغياب، لكن أكثرها ألما لحظات الفقد حين يغادرنا أناس عشنا معهم الذكرى، وعن أسوأ هذه اللحظات في مسار “عمي دحمان” مع هذه المهنة، توقف عندها بعد أن أخذ نفسا طويلا، عاد بنا إلى سنوات التسعينيات حينما كان في مهمة مع أحد ولاة الولاية برفقة مجموعة من الصحفيين، وفي إحدى المحطات طلب منه الأمين العام للولاية آنذاك أن يترك مكانه في سيارة الصحفيين لأحد الزملاء ويلتحق بسيارة أخرى في الموكب، فكان له ذلك، ولكن ما هي إلا لحظات حتى تعرضت سيارة الصحفيين لحادث مرور أليم أودى بحياة اثنين من أعز أصدقائه، فيقول “عمي دحمان “، رغم هول الحادثة لكن مهنتي كمصور دفعتني لتصوير الحادث، فقمت بتصويره على المباشر، ولكني فضلت عدم نشر تلك الصور حفاظا على كرامة زملائي الذين لقوا حتفهم في ذلك الحادث، وهي ربما الصورة الأسوأ في مسار “عمي دحمان” والتي كلما يتذكرها تغرورق عيناه بالدموع. لم يندم “عمي دحمان “ يوما على اختياره لهذه المهنة، التي حسبه تسري في عروقه، حتى وإن تمنى في قرارة نفسه لو تتاح له الفرصة لنقل تجربته للجيل الحالي، لأنه بأمسّ الحاجة لهذه الخبرة والاستفادة منها، لكن الوقت لم يحن بعد لأسباب تبقى خارجة عن إرادته.