تعدّ الدكتورة زهرة بوسكين، من الأسماء الاعلامية والأدبية الفاعلة في الساحة الثقافية العربية والجزائرية، استهلت مشوارها في النشر والكتابة منذ بداية التسعينيات بجرائد "الجمهورية"، "المساء" و«النصر"، وتعاملت مع عديد المنابر الاعلامية والثقافية داخل وخارج الوطن، متوجة بعدة جوائز عربية، كما تمّ اختيارها في انطولوجيا عالمية للشعر صدرت ببروكسل، بحوزتها مجموعة من الإصدارات في الشعر والقصة والدراسات الأكاديمية، آخر أعمالها صدر منذ أيام بعنوان "ما لم تقله العلبة السوداء" وعنه سيكون هذا الحوار. ما هو مضمون الإصدار الجديد؟ إصداري الجديد يتناول عدّة قضايا ويطرح مجموعة من الأسئلة، أسئلة لا تبحث عن أجوبة لكنها تفتح عوالم داخلية عديدة، فيه قضايا اجتماعية سياسية نفسية، فمثلا من أهم القضايا الاجتماعية ظاهرة تسول الأطفال وغوص في أعماق إنسان يسترجع ذكريات طفولته، وهي رمزية تشير إلى أهمية مرحلة الطفولة في بناء الشخصية وكيف كبر هذا الطفل يحقد على أمه وعلى العالم المحيط به، فيه نصوص سياسية حول صناعة الانتحاريين بأساليب بسيكولوجية واختراق للذات من خلال العالم الأزرق، يتجلّى ذلك من خلال نص "العالم بحزام ناسف"، وكذلك رجوع إلى الاغتيالات التي عشناها في سنوات الجمر، لأنه لا يجب أن ننكر انعكاسات المرحلة على المدى البعيد، إلى جانب نصوص أخرى تحاكي أعماق الإنسان ومعاشه النفسي واضطراباته النفسية لأن الإنسان واحد فقط بتفاصيل متعددة، وغلاف الكتاب لوحة زيتية أصلية للفنان الجزائري عبد الغني غوار، أشكره وأشكر من اختار بذوقه الأنيق هذه اللوحة لتكون الغلاف. لماذا التنوع السردي في هذا الكتاب؟ فيه فلسفة وفيه بعض نظريات علم النّفس.. أؤمن أنّ كلّ العلوم مرتبطة ببعضها البعض، وفي كتاباتي أحاول أن أستفيد من تخصّصاتي العلمية منها علم النفس الإكلينيكي، ثم التحليل النفسي في مرحلة الدكتوراه، لأنه الأقرب إلى أعماق الإنسان ولأن الكتابة هي عملية تفريغ انفعالي لكل ما بأعماق الانسان وهذه نقطة تقاطع مهمة، زيادة إلى ذلك فالكتابة فن والعلاج بالفن معروف، ومن أهم أنواع العلاجات النفسية وكان لي تربصات علمية خارج الوطن حول العلاج بالموسيقى وكذلك العلاج بمسرح السيكودراما، لذا في مجال الكتابة أحاول دائما أن أجعل نصوصي ذات صبغة علمية، وأستفيد ولو بقدر بسيط مما درسته في هذا المجال. والتنوع السردي مهم جدا لأنّ القرّاء أنواع ومستويات ويجب أن يجد القاريء نفسه في الكتاب. هل تكتبين من أجل القطيعة مع الأنماط الأدبية الأخرى، خاصة وأنّك في أغلب أعمالك تعتمدين على الأبعاد الفلسفية والنّفسية؟ الإبداع تواصل وحلقات مرتبطة ببعضها، شخصيا لا أراهن على القطيعة مع الأنماط الأدبية الأخرى ولكني أراهن على أن أجدّد في كلّ تجربة، لأنّه لا يمكن للإنسان أن يلغي الآخر، لذا أنا أحترم كل التجارب وكل الكتابات، ولكن بمقابل ذلك أريد أن أشكل تجربتي كما أراها لا أريد أن أكرّر غيري أو أكوّن صورة عن الآخر، يجب أن أرسم عالمي بالألوان التي أختارها.. ليس لي أي علاقة بالفلسفة لكن الاعتماد على الأبعاد النّفسية أجده مهما جدا، لذلك لي كتاب آخر قد يصدر مستقبلا في مجال النقد النّفسي كأحد أهم مجالات النقد الأدبي الذي يعاني من فراغ في جانب البحث العلمي والدراسات المتخصصة. ماذا تقصدين بالعلبة السوداء؟ لكلّ إنسان علبة سوداء مستعصية ذلك اللاشعور البعيد الذي لا يصله أحد، يرى العلماء في مقدمتهم عالم الاتصال ماكلوهان، أنّ الانسان ابتكر واخترع كل ما له علاقة بجسده مثلا الكاميرا انعكاس للعين، السماعة انعكاس للأذن...الخ، لذلك حاولت أن أقوم بإسقاط لهذه النظرية على لاشعور الانسان، هذا اللاشعور الذي يحمل كل المتناقضات والمكبوتات وكل ما لا يقال لا أحد يراه، لكنه يؤثر على كل كياننا لذلك يجتمع في العلبة السوداء ماكلوهان ومعه فرويد. كيف تنظرين إلى الإبداع في الجزائر، خاصة مع ظهور موجة جديدة من المبدعين الشباب؟ الإبداع كإبداع بخير ومؤشّر صحي ظهور أجيال جديدة لأنّ الكتابة لا تنتهي عند أسماء معينة، بل يوجد في النّهر ما لا يوجد في البحر، وأسعد بكلّ التجارب الجادة لكني لا أؤمن بالمنتوج الفايسبوكي، فجميل استغلال نعمة التكنولوجيا لكن لا يجب أن ننسى بناء أساس واقعي كي لا ينتهي المبدع مع انقطاع الشبكة، ومن زاوية أخرى الإبداع في الجزائر بحاجة إلى سياسة جادة ممنهجة ومدروسة، إذ لا توجد مرافقة جادة في كل المراحل، ووزارة الثقافة، لها مهام إدارية فقط الآن وقبل وبعد، ومرات تضع مجهوداتها في غير موضعها أو يستفيد منها سماسرة الثقافة، لأن الثقافة ملغمة لا تختلف عن السياسة أقولها عن تجربة، وآن الأوان أن تلتفت العدالة إلى ملفات الثقافة لأن بناء جزائر جديدة يتطلب تطهير مختلف القطاعات. ما موقع الأدب النّسوي اليوم؟ لا أؤمن بهذه التسمية، لأنّه لا يوجد أدب نسوي وأدب رجالي، لأنّ الأدب عندي لا جنس له بل هو حياة، هو عوالم مفتوحة على كلّ الاحتمالات، فكما يوجد نص ناجح يوجد نص فاشل، كما توجد رداءة وتوجد جودة، لذا يجب أن نتجاوز مصطلحات انتهت صلاحيتها. كيف تنظرين إلى حركة النّقد؟ الحركة النّقدية قاصرة إلى حد كبير، إذ طغى نقد المحاباة والمصالح الضيقة، ولا يكفي ما تحمله بعض الرسائل والأطروحات التي تم تحويلها إلى كتب وعلى أكثرها أهمية، ظل رهين الأدراج وأكله الغبار ولم يستفد منه أحد، وهنا أيضا تكمن حلقات مفقودة عن دور مخابر البحث بالجامعات وديوان المطبوعات الجامعية. ماذا تمثل الكتابة بالنسبة لك؟ أعتبرها رئتي الثالثة تمنحي نفسا طويلا للحياة. ما هو المجال الأقرب إليك، الإعلام أم التدريس بالجامعة أم الكتابة؟ لكلّ مجال خصوصياته، فالإعلام فضاء شاسع ومتنوّع أحبّ أن أحلّق فيه بوجداني، كما أحب عملي كثيرا وأقدر سلطة الصوت والكلمة فهي رسالة، أمّا التدريس بالجامعة أيضا فأعتبره تجربة متواضعة تعلمت منها أمورا كثيرة وأكسبتني علاقات طيبة مع طلبتي، إضافة إلى أنّها تجربة حملت لي مرات مفاجآت مؤثرة ومواقف جميلة، بينما الكتابة بكل مجالاتها هي الأقرب شعرا وسردا، لكن للقراءة أيضا حضورها فالكتاب يلازمني يوميا في كل زاوية من بيتي مكتبة. ما هي مشاريعك المستقبلية؟ مشاريعي الثقافية كتب ستصدر في المستقبل القريب، منها كتاب أكاديمي حول الإجهاد النفسي عند الاعلاميين وكتاب في النقد النفسي وحوارات على ضفاف السين، ورواية القديس، والرواية التي كلما تنتهي يبدأ فصل جديد لأنها مرتبطة بالجزائر. كلمة أخيرة أشكر يومية "المساء" على الاستضافة وعلى الاهتمام الذي توليه للثقافة وللمبدعين وللأقلام الجادة.