ما صنعه المناصرون الجزائريون وأشبال سعدان بالخرطوم وما وجدوه بالسودان الشقيق من حميمية فاقت كل التصورات والتوقعات، ومحت الحشود المتدفقة روتين العاصمة السودانية، وصارت كل الشوارع ومعظم السيارات، والشاحنات والبنايات تتزين بالعلم الجزائري، كان المصريون متأكدين أن الأمر لم يكن سهلا، وأن جحافل المناصرين سيزيدون الوقود في محركات اللاعبين، وتضامن الأشقاء السودانيين لم يكن له مثال، فقد أحرجونا بكرمهم ومساندتهم العفوية، وجمعوا الليل مع النهار يشاركون المناصرين فرحة انطلقت من ملعب المريخ. عندما بزعت شمس الثامن عشر نوفمبر، وصحا الأشقاء السودانيون، وجدوا عاصمتهم تعج بالجزائريين، دخلوا أسواقها، مطاعمها ومحلاتها وتحدثوا للصغار والكبار، للنساء والرجال، وحاولوا إيصال عبارات الشكر للسودان وللبشير الذي بشرهم بمنح التأشيرة، فأزال عبئا كبيرا وعائقا أكبر، لم يصدق الجزائريون أن الإخوة السودانيين سيلحون على طلب الرايات الجزائرية بشكل منقطع النظير، خرجنا أمام السفارة وقد امتلأت بالشرطة والجنود جنبات الطرق، فلا تسمع إلا أهازيج مدوية في كل مكان، كان الفتيان والشباب يقتربون منا مرددين "الجزائر.. الجزائر مبروك إن شاء الله"، "أعطني علما يا عم".. صار العلم الجزائري - أغلى وأرفع وأسمى في عيوننا .. "لهذه الدرجة يحبون بلادنا .. سبحان الله" رددتها إحدى المناصرات التي لبست "حلة علم" مضيفة "قتلونا بالقدر .. يا خو" واقترب منها فتيان متمدرسون ملتمسين منها منحهم أعلاما جزائرية، وعدتهم بذلك وفي لحظات جاءتهم بأعلام صغيرة مربوطة بخيط وراحت تعطي كل واحد علما، لكن أعوان الشرطة حاولوا منعهم فاصطدموا بإلحاح الجزائريين على أن يسمحوا لهم بذلك، الصورة كانت أجمل بالشوارع، سرت قليلا مع بعض الصحفيين وكان همهم الوحيد هو الحصول على "بطاقة الاعتماد"، لأنها تؤمن لهم مكانا مريحا وآمنا، وكان ذلك سهلا، فالإخوة السودانيون في الاتحاد الرياضي والوزارة المعنية وفروا كل شيء، واستطاع الوفد الصحفي أن يحصل على بطاقات الاعتماد بسهولة لتبدأ بعدها رحلة البحث عن مكان في مدرجات ملعب المريخ. منذ منتصف النهار كانت حشود المناصرين تملأ جنبات الملعب وأبواب الدخول وهتافات لا تنقطع، وبالجهة المقابلة كان المناصرون المصريون والسودانيون ينتظرون وقت الدخول، فالزحمة كانت شديدة والسلطات الأمنية السودانية تحملت عبئها بكل مهنية واقتدار. وصل الوفد إلى الملعب في حدود الرابعة بتوقيت السودان والثانية بتوقيتنا قيل لنا أن الجزائريين ملأوا المدرجات في وقت قصير، دخلنا بصعوبة كبيرة مربع الصحفيين الجزائريين، تشديدات أمنية غير مسبوقة، وقبل ذلك دخلنا من باب المناصرين وبقينا هناك وسط الهتافات، لكن وجدنا أنفسنا بعيدين عن المكان الملائم، فخرجنا وبحثنا عن بوابة الصحفيين الجزائريين التي كان يدخل منها المسؤولون السامون للدولتين المتنافستين والدولة المضيفة، جلسنا على أحر من الجمر، ورغم أن المقابلة كانت ستجري بعد ثلاث ساعات إلا أنه لا أحد استطاع الجلوس مرتاحا في مكانه، الصحفيون الجزائريون والفنانون والرياضيون كلهم في مربع واحد، لم يجد بعضهم أماكن فبقوا واقفين طيلة 5 ساعات كاملة. غربت الشمس، أشعلت المصابيح،، وأبدع المناصرون ملعب المريخ ورغم صغره فإنه كان جيدا بشهادة الرياضيين والمختصين فهو ذو عشب طبيعي ومضمار تم تجديده بعشب اصطناعي، الأعلام الوطنية فسيفساء تزين المدرجات، والشماريخ أضاءت المكان قبل حلول الظلام، وعرس الانتصار بدأ قبل الأوان، المناصرون الجزائريون أبدعوا في استعراضاتهم وأهازيجهم المشجعة للخضر والمدرب والشاكرة للرئيس، كل الأغاني الرياضية أعادها المناصرون في المدرجات، ولم تبح حناجرهم، وفي الجهة المقابلة كان المناصرون المصريون أيضا - يعيدون بعض الأهازيج كتلك التي كنا نسمعها في القنوات الفضائية. وكانت هتافات واستعراضات الجزائريين محل دهشة وإعجاب السودانيين الذين أكدوا لنا أن هذا العرس الكروي والجماهيري لم يروا مثله قط، وأجزم السودانيون المناصرون للخضر أنهم فخورون بذلك، وأن المصريين مغرورون وستكون نهايتهم في ملعب المريخ.. لم نصدق ذلك لكون المباراة تحمل كل المفاجآت وكنا خلال ال90 دقيقة ننتظر كل شيء إلا الهزيمة، ومن كثرة تعلق الأشقاء السودانيين بأهازيج الجزائريين كانوا يطلبون منا ترجمة بعضها فيضحكون ويهللون، أهازيج وهتافات الجزائريين كانت كلها تحمل معاني: الجرأة "الرجلة"، القوة، الفخر والاعتزاز بوطن غال وشعب أبي يكره الظلم والحقرة ويمقت الغرور والمكائد، كان بعض المناصرين والسؤولين السودانيين على علم بكل ما حدث في مصر إنه شعب يحب بلاده ورئيسه ويطمح كغيره للصعود والتألق في الرياضة وكانت عفوية اختيار الأهازيج وترديدها تنتشر بين المدرجات في لمح البصر، كدنا لا نصدق أننا في ملعب المريخ على بعد 4 آلاف كلم، مربعات الجزائريين كانت توحي وكأننا في ملعب 5 جويلية بالعاصمة "ماذا يريد لاعبو الخضرة بعد هذا .. لا بد من الفوز" قالها أحد المناصرين الذي تسلل وسط الصحافيين" وألهب المشاعر ولم يجلس قط، لا قبل المباراة ولا أثناءها. هكذا علم الجزائريون المصريين كيف يناصرون بلغ إبداع المناصرين الجزائريين إلى درجة أنهم أسكتوا أفواه نظرائهم المصريين، الذين استمتعوا واندهشوا لاستعراضات لم يروا مثلها، فعندما أخرج الجزائريون علما بحجم كبير راح المصريون يعرضون علما أكبر عليه علامة متعامل هاتفي، وكانت المفاجأة أن يخرج مناصرو الخضر علما وطنيا طوله بطول المدرجات التي كانوا يحتلونها، وكأنه ثعبان عملاق. واعترف المناصرون السودانيون أن الجزائريين أقوياء في المناصرة ولاحظوا كيف كان المصريون يحاكون الجزائريين في كل استعراض حتى هتف أحد المناصرين الجزائريين قائلا "تعلموا منا أيها المصريون.. تعلموا كيف تناصرون".. وفي هذا السياق لاحظ الجميع كيف كان الجمهور الجزائري يصنع التموجات الزاحفة، فراح المصريون يقلدونها، لكن بمستوى غير عال، ولما أشعل الجزائريون الشماريخ وبعدها أوراق الصحف، قام المصريون بالفعل نفسه، فتأكد الجميع وخاصة الإخوة السودانيين أن الجزائريين جاؤوا ليعلموا المصريين كيف يناصرون. اللقطة التي أثلجت صدور الخضر والمناصرين قبل المباراة بساعة دخل الطاقم التقني الجزائري واللاعبون الاحتياطيون فالتهبت المدرجات بالهتافات وردد الجميع عبارات (1،2،3، فيفا لالجيري) ومقطعا من نشيد قسما اقشعرت له الأجساد وزادت درجة الحماسة، وبعدها بربع ساعة دخل أيضا اللاعبون الجزائريون والمصريون، إلى المربع الأخضر لإجراء التسخينات وازدادت دقات القلوب عندما بقيت الدقائق العشر الأخيرة والتي شهدنا فيها لقطة أثلجت صدور المناصرين واللاعبين، إنها تتعلقق بأحد التقنيين الجزائريين الذي قام بإمساك نظيره المصري الذي دخل مربع الجزائريين بدعوى التقاط كرة ضائعة، لقد اقتاده من قفاه وأخرجه من منطقة الخضر لأن ذلك ممنوع حسب قوانين الكرة، فراح المناصرون يطلقون صفارات التوبيخ في مشهد لم يحدث من قبل، وكانت هذه اللقطة أول رد للضغوطات المصرية التي مورست على الجزائريين بالقاهرة، كان الجميع يحس بالحرية والانشراح وسط جمهور من ذهب أبدع في المناصرة والتشجيع وعلم نظيره أن الجزائريين ليسوا كما تصورهم الفضائيات المصرية الخاصة والمنحازة. مقابلة صعبة هدف قاتل وأعصاب مشدودة كانت اللحظات الأولى لانطلاق المباراة صعبة، انتاب فيها الخوف قلوب المناصرين وأشبال سعدان الذين أغلقوا منافذ المهاجمين المصريين أثبتوا أن المقابلة صعبة وأن الخضر سيشكلون خطرا كبيرا على مرمى الحضري، كان رواح الخضر وهجومهم مرفوقا بالأهازيج ودفاعهم تصفيرا على المصريين، الكل كان على الأعصاب، بعض المناصرين والصحفيين كانوا يختبئون ولا يرون اللقطات الخطيرة على مرمى الحارس شاوشي، وآخرون لم تجف عيونهم من الدموع وكان الهدف في الشوط الأول الضربة القاضية التي زادت من قوة أشبال سعدان الذي لم يقم من مكانه، لكنه اضطر في الشوط الثاني إلى الوقوف عند خط التماس لتوجيه اللاعبين حينها عرف الجميع أن الأمر صار خطيرا جدا، لأن خروج المدرب سعدان في الشوط الثاني يعني المحافظة على النتيجة وتنظيم الهجومات والتركيز أكثر على خط الدفاع، وكانت التغييرات التي أحدثها المدرب في الشوط الثاني في محلها حسب الرياضيين الذين كانوا معنا، فقد أدى اللاعبون البدلاء دورا هاما، وكانت أسماء بوقرة زياني، بلحاج، صايفي وشاوشي غالبة على أحاديث الصحافيين، وكانت الدقائق الأربع من الوقت الضائع لآخر اللمسات والتوجيهات، وآخر لقطة أحس فيها الجزائريون بالانتصار الأكيد خلال الدقائق المعدودة مخالفة لصالح الخضر في منطقة المصريين التي انتهت بهجمة مضادة أخرجت لصالح شاوشي، الذين ما إن رمى الكرة حتى صفر الحكم نهاية المباراة وفوز منتخبنا الوطني، وحينها هب المناصرون نحو المربع الأخضر للقاء اللاعبين، والفرحة عارمة لا تصفها الكلمات والعبارات. العلامة الكاملة للسودانيين شعبا وحكومة لم يخرج المناصرون الجزائريون من ملعب المريخ عند انتهاء المباراة وظلوا يهتفون بحياة الخضر، ومنهم من أغمي عليه وآخرون نزلوا إلى المربع الأخضر للقاء اللاعبين، بينما خرج المصريون في لمح البصر وما إن غادر اللاعبون الميدان حتى خرج المناصرون إلى شوارع الخرطوم يملأون الحافلات والسيارات ومعهم السودانيون الذين خرجوا إلى الشوارع لمشاركة الجزائريين فرحتهم. كانت الخرطوم أشبه بالجزائر العاصمة، لم نستطع الوصول إلى المطار إلا بصعوبة كبيرة فالأمن السوداني ضرب طوقا كبيرا على الطرقات والمسالك المؤدية نحو المطار، ورغم أن الزحمة والضغط الكبيرين أحدثا بعض الخسائر بالمطار فإن الإخوة السودانيين أثبتوا للعالم أنهم قادرون على تسيير مقابلات كبرى، خاصة بين دولتين إفريقيتين كبيرتين تدفق جمهورهما دفعة واحدة فألف مبروك للجزائر وشكرا للسودان وعظم الله أجر الإخوة المصريين.