تظهر المواقف التي عبر عنها الكثير من المواطنين لاسيما النساء حول حملة القضاء عن الأسواق الفوضوية في الأحياء الشعبية للعاصمة، تعود الجزائري على نمط استهلاكي معين لايمكنه تغييره بين ليلة وضحاها، فرغم ما يمنحه هذا الإجراء من راحة وهدوء لسكان الأحياء المعنية والمارين منها، فإن البعض أسفوا لغياب الطاولات المرصوصة على الأرصفة بما تحمله من ''خيرات'' من المشهد العام. هذا الأسف مرده عوامل كثيرة وليس سعر البضائع المعروضة في الأسواق الفوضوية فقط، فالمواطن تعود منذ سنوات على اقتناء حاجياته من هذه الأسواق، واعتاد بذلك على نمط استهلاكي معين. فهذه الأسواق عكس ما يعتقده البعض ليست مجرد فضاء للتزود بما يحتاج إليه العاصميون، بل هي ''ثقافة استهلاكية'' يصعب أن تمحى بمجرد إزالة الطاولات من الأرصفة... ولذا ليس غريبا أن نلاحظ إقبال جموع النسوة المستمر على سوق ساحة الشهداء على سبيل المثال، أملا في أن يجدن ضالتهن في بعض ''الزنيقات'' حيث مازال بعض الشباب يعرضون منتجاتهم، وذلك رغم انهن يعلمن بأمر إلغاء السوق ومنع العرض في الطرق الرئيسية. هذه الأخيرة أصبح التجول فيها متعة بالنسبة للبعض، بعد أن خلت الأرصفة من ''محتليها'' وعادت إلى أصحابها، أي المشاة المارين من هنا أو الراغبين في التسوق من المتاجر المنتشرة في ساحة الشهداء، لاسيما في ''زنقة العرايس'' حيث تتراص المحلات المختصة في بيع كل حاجيات العرائس. أما بالنسبة للبعض الآخر، فإن المكان أصبح ''قاحلا'' بعد أن خلا منه ''تجار المناسبات'' وأصحاب السلع الرخيصة التي تستجيب لمنطق الفصول والمناسبات والأعياد، كما تستجيب في كثير من الأحيان لقدرة ''الجيوب'' لمستهلكين يريدون كل شيء لكن بأقل ثمن. ورغم أن الثمن يعد نسبيا في حالات عدة خاصة في المناسبات، إذ نجد أن أثمان بعض السلع في الأسواق الفوضوية لاتختلف كثيرا عن تلك التي تباع في المتاجر والمحلات الشرعية ''التي تدفع الضرائب''، فإن ''العادة'' تجعل المتسوق يعتبر أن ما يشتريه من هذه الأسواق أقل ثمنا، طبعا هذا لاينفي وجود فروق في السعر تكون أحيانا كبيرة جدا وملفتة للانتباه، فمثلا كان سوق ساحة الشهداء يتيح اقتناء بعض الاكسسوارات النسوية بعشرة دنانير للقطعة الواحدة! في حين لايقل ثمنها في المتاجر عن 50 دينارا، وقد نجد في سوق باش جراح الفوضوي حقائب نسوية ب200دج فقط، بل إننا نتذكر أن البطيخ منح بالمجان في إحدى أيام الصيف الماضي بسوق بومعطي! فهذه الأسواق تعطي ''نشوة'' للمتسوق لايجدها في مكان آخر، لأنها تحسسه بأنه ''عقد صفقة رابحة'' وأنه لم يعد للبيت بخفي حنين، بل تعطيه الفرصة في أن يتباهى أمام الآخرين وهو يسألهم ''خمنوا بكم اشتريت هذه السلعة؟''، ونتصور بالتأكيد أن أكثر المنتشين بطعم الانتصار في معركة الشراء هن النساء، ولذلك هن الأكثر أسفا على زوال هذه الأسواق. إن ثقافة التسوق في هذه الأسواق ترتبط كذلك بمسألة ''المناسباتية'' وهي جوهرية، لأن أصحاب الطاولات بهذه الأسواق خبيرون في تغير الفصول، وتغير الطقس، وتعدد المناسبات والأفراح والأعياد، وهم بذلك يتكيفون مع كل حال ومع كل مناسبة، وكأنهم يقولون للمستهلكين ''نحن نقرأ أفكاركم، ونشعر باحتياجاتكم، بل ونلبيها لكم، ونوفر عنكم عناء البحث عنها''. وهكذا تتغير هذه الأسواق بتغير الفصول والمناسبات.. كل شيء يباع فيها: المواد الغذائية، والخضر، والفواكه، والأكلات التقليدية والحلويات بكل أنواعها والمكسرات.. هي سمتها في رمضان.. الملابس مع قرب العيد.. ثم لعب الأطفال بكل أنواعها عشية العيد، الأواني المنزلية وتجهيزات المطبخ عشية رمضان ومعها التوابل.. الأدوات المدرسية مع حلول كل موسم دراسي، وألعاب البحر وكافة اكسسورات الشواطئ مع اقتراب فصل الصيف والعطل... إلخ... هكذا إذاً تتلون الأسواق الفوضوية بألوان الفصول والأعياد، لتشارك المواطن فرحته، لكن ليس بالمجان! وقد يدفع بعض مرتاديها كل مالهم إن هم تعرضوا للسرقة التي تعد سمة هذا النوع من الأسواق، بما تتيحه من حرية لمقتنصي الفرص بفعل الاكتظاظ الشديد الذي تعرفه في كل أيام الأسبوع. وتعد مظاهر السرقة والاعتداء من بين أهم العوامل التي تثني محبي ''التسوق الفوضوي'' عن ارتياد هذه الأسواق، وهي كذلك من الأسباب التي جعلت البعض يدعون إلى إلغائها باعتبارها ''مغناطيسا'' تجذب أصحاب النوايا الخبيثة، الذين يمتهنون الانحراف. وهذا ما لايجب أن ينساه المتأسفون على زوال هذه الأسواق، الذين يدافع أكثرهم عن أصحاب الطاولات من باب أنهم شباب لاعمل لهم، وأن زوال السوق يعني ''ضياعهم''، لكنهم ينسون ماعاناه سكان الأحياء التي تتواجد فيها الأسواق الفوضوية، والذين ثاروا في أحيان كثيرة على مخلفات هذه الأسواق وآثارها عليهم من فوضى ورمي للقاذورات في كل مكان، والشجارات وكذا الكلمات النابية التي تقال في العلن أمام مسمع سكان العمارات المجاورة الذين أصبحت حياتهم اليومية ''سوقا''، فمن منا يرضى أن يعيش يومه كاملا وسط ''مظاهر سوقية'' من ازدحام وغلق طرقات وأرصفة وغبار وقمامات؟ لا أحد طبعا، لكن المهم ''تخطي راسي'' كما يقال عندنا. فالمتأسفون على السوق لايقيمون بمحاذاته، وإلا لكان لهم رأي آخر، كما أنه من الواجب التذكير بأن الرغبة في التسوق هناك ليست بنية مساعدة الشباب العاطلين عن العمل، وإنما للحصول على حاجياتهم بأدنى سعر... فلو باع هؤلاء بنفس سعر التجار لما رق أحد لحالهم.. المسألة تتعلق بمصلحة وليس بمبدأ. ومع ذلك الأجدر هو أن نتمنى لشبابنا مستقبلا أفضل من ''طاولة''، وهو ما يتعين على السلطات المعنية العمل على تحقيقه، وأن نتمنى محيطا معيشيا أرقى وأهدأ لاسيما في العاصمة التي أصبحت خانقة لسكانها... بعد أن أصبحت كل زاوية فارغة ''فرصة تجارية'' يجب استغلالها حتى لو كانت ممرا علويا للراجلين!.