أخذت برأي أحد الأصدقاء الذي نصحني بتناول العشاء مبكرا أو التقليل من الأكل ليلا، حتى أتفادى الكوابيس المزعجة، فلم أتعش تلك الليلة ونمت خاوي البطن خفيفا، وكلي أمل في أن أعيش ليلة لا تشبه سابقاتها، بلا هذيان ولا كوابيس. وما إن أطفأت النور وسكن الكون، حتى ذهبت في نوم عذب أخف وأذكى من نسيم الربيع.. طرق باب البيت طارق، انتظرت قليلا قبل فتح الباب لأستمتع بتلك النعمة، لأنها أعادتني إلى ماض جميل كان فيه الانتظار جميلا والطرق عذبا.. عاد الزائر الطارق إلى إحداث طقطقات متقطعة، محتشمة، خجولة أعذب من الأولى.. كدت أترجاه ألا يتوقف، ولعنت الزمن الذي عشته على وقع الجرس المزعج، ذلك الجرس الذي رجني كثيرا فقطعت أوصاله وأسكته إلى الأبد، إن كنت تذكر. اتجهت نحو الباب لأفتحه بعد تردد، ولو لا خشية انصراف الطارق، لتريثت أكثر حتى أستمتع بنغم الطرق أكثر.. فتحت الباب فوجدتني وجها لوجه مع ساعي البريد بدراجته النارية الصفراء وجعبته الجلدية الحمراء، أمال قبعته الجميلة إلى مؤخرة رأسه مبتسما محييا، وهو يدخل يده إلى قعر جعبته ليخرج منها شيئا يخصني.. احتصنته، ضممته إلى صدري وقبلته على جبينه بحرارة شديدة، سألته عن أحواله وصحته، وعن سبب طول غيبته، طمأنني بدوره، ووعدني ألا يطيل الغياب بعد اليوم، وأن زمن الألفة، الإخاء والمحبة سيعود كما كان، وحمدا لله على بقاء عنواني كما هو، لم يتغير.. ساعي البريد في بيتنا بهيئته وهندامه ولطافته ورسائله وحوالاته وبرقياته، فما أسعد هذا اليوم.. قدم لي حوالة بمائة دينار وانصرفت إلى البيت، ثم استوقفني متأسفا، آه كدت أنسى، لديك «برية» (رسالة)، تفضل.. تناولت الرسالة من يده وانطلقت في حبور وسعادة لا توصف، لأبشر عائلتي بالحوالة والرسالة.. جمعت العائلة كلها في جو حميمي سعيد، عددت أمامهم الحوالة وحرصنا على أن تصرف فيما هو ضروري، ثم فضضت الرسالة وكلهم أذن واحدة صاغية: من أخيك فلان، بعد التحية والإكرام، نحن...... ما أعذبها لحظات وما أسعدها ليلة.. بعد الفراغ من قراءة الرسالة والتعليق على محتواها، احتفلت الأسرة جميعا في سهرة هاربة من ألف ليلة وليلة، احتفالا بطلة ساعي البريد على دارنا ووصول الحوالة الصفراء، والرسالة التي وصلتنا من صديق العائلة المزينة بطوابع زاهية. من يومها، قررت الامتناع عن الأكل ليلا حتى أعيش ساعة كالتي عشتها مع ساعي البريد والرسالة الحميمية ولو في الأحلام.