لم تكن في بادئ الأمر فكرة التوغل في الظاهرة التي اكتشفتها ''النهار'' سهلة، ليس فقط لصعوبة إقناع أم رفضت التنازل على أبسط مقومات شرفها ونزلت إلى الشارع للتسول مكرهة، بعد أن كشرت الظروف الاجتماعية عن أنيابها، بالإدلاء بتصريحات صحفية، بل لذهولنا أمام قصة حقيقية لم يقدر أشهر كاتبي سيناريوهات الأفلام الاجتماعية والروائيين على نسج قصة مثلها. إنها قصة صمود وتحد لامرأة جزائرية أكدت المعلومات المتوفرة لدينا أنها تقيم ببلدية برحال بعنابة تتنقل يوميا إلى مدينة عزابة بسكيكدة للتسول، أين تلم قوت يومها من سخاء المحسنين، ترافقها بين الفينة والأخرى ابنيتها اللتان اتضح بعد تتبع وتقصي طويلين أنهما متفوقتان في دراستهما وتحققان نتائج عجز أترابهما الذين يعيشون في أفضل الظروف عن تحقيقها. الفتاة ''دنيا. ز'' صاحبة ال ربيعا، يعرفها الجميع في عزابة بسكيكدة بالمتسولة، فهي تمارس التسول منذ 8 سنوات من عمرها بعزابة، ومكانها معروف لدى العام والخاص وحتى زائري هذه المدينة، لكن ما لا يعرفه هؤلاء هو الشطر الآخر من حياة دنيا التي تمكنت هذه السنة من الحصول على شهادة التعليم المتوسط بمعدل 17 من 20 عن جدارة واستحقاق. وعن هذا الإنجاز، قالت دنيا، التي تحدثت إلينا بخجل شديد، بأنها لا تدخر جهدا في مراجعة دروسها وحل وظائفها وتحضير نفسها للامتحانات لأنها تحلم بأن تدخل الجامعة وتلتحق بأختها الأكبر منها سنا التي تدرس بأحد معاهد جامعة عنابة. وعن كيفية توفيقها بين ممارسة التسول والدراسة، قالت دنيا بأنها تمارس التسول في أوقات الفراغ وأنها سلكت هذا الطريق لمساعدة والدتها التي تمارس التسول هي كذلك على مصاريفها ومصاريف إخوانها الأربعة بعد أن توفي والدها وهي صغيرة، لتدخل هذا العالم هي وأختها الكبرى منها دون عقدة، وأضافت ''نحن نرضى بما يعطيه لنا فاعلوا الخير ولا نحرج أحدا، وأنا لا أستحي لأنني لا أقوم بالحرام، أنا لا نستطيع العمل ولا أستطيع رؤية أمي وهي تعاني الأمرين من أجلنا، لذلك لجأت للتسول حتى أستطيع إعانة عائلتي، ولكني أتمنى من الله أن يوفقني في دراستي وأتخرج وأحصل على عمل حتى أريح أمي من التسول. أم دنيا '' أنا فخورة بابنتي'' ''أنا فخورة بابنتي''، هذا ما قالته لنا أم دنيا، حيث بدت فرحة جدا بما حصلت عليه ابنتها وقالت : ''أنا فخورة بدنيا وسعادتي لا توصف وأنا أعيش لأجل أبنائي وأنسى كل همومي عندما أراهم ناجحين في دراستهم''، وسكتت قليلا ثم أردفت قائلة وعيناها مغرورقتان بالدموع ''عندما توفي زوجي وترك لي دنيا وإخوانها اسودت الدنيا في وجهي، فلم أجد ما أفعله فاتجهت إلى التسول لتلبية حاجياتهم وكانت دنيا وأختها الكبرى يحاولان دائما الذهاب معي لمساعدتي، ولكني كنت أمنعهما لأنهما صغيرتان حينها، ولكن بعد أن كبر الأولاد وكثرت طلباتهم ولم أعد أقدر على تلبيتها قبلت أن يذهبوا معي في أوقات الفراغ فقط واشترطت عليهم أن تكون نتائجهم جيدة في الدراسة فوعدوني بذلك، وهو ما أوفوا به فابنتي الكبرى تدرس الآن في الجامعة ودنيا تحصلت على شهادة التعليم المتوسط، فلذلك فأنا الآن تغمرني فرحة لا أستطيع أن أصفها لك، وأتمنى من الله أن يطيل في عمري حتى أرى كل أولادي متخرجين من الجامعة إن شاء الله. وإن كان موضوع نجاح البنت المتسولة دنيا في شهادة التعليم المتوسط لم يأخذ صدى كبيرا بمدينة عزابة بحكم أن الجميع لا يعرف القصة الحقيقية لعائلتها والظروف المعيشية الصعبة التي تمر بها رغم أن العام والخاص يعرف أمها وأختها بحكم تسولهن بالمنطقة من وقت طويل، نزل الخبر كالصاعقة عند من اكشفوا أمرهن، حيث امتزجت مشاعر من تحدثت إليهم ''النهار'' بين الشفقة والاستياء من الجهات المسؤولة التي كان عليها التكفل بهذه العائلة المكافحة والرافضة لكل ما مشين من المظاهر التي يعرفها مجتمعنا. والله والدتهما تستحق رفع القبعة لكفاحها الرجولي ''عبد السلام. س'' وهو صاحب محل بوسط مدينة عزابة عندما أعلمناه بالخبر اندهش وقال ''أنا أعرف هذه العائلة منذ مدة وهم يأتون كل صباح من دائرة برحال بولاية عنابة للتسول هنا بعزابة، وأؤكد لك أنني ألاحظ غياب الفتاتين من وقت لآخر ولكن لم أكن أعلم بأنهما يدرسان، وحقيقة لقد زاد احترامي لهما لأنهما أثبتا بأن لهما إرادة قوية وأتمنى لهما التوفيق في دراستهما ومن اليوم فصاعدا سأكون من الأشخاص الذين يرعونهما ولم في خفي حنين''. أنا مذهول والنجاح في مثل هذه الظروف يعجز اللسان عن وصفه أما ''طارق. ل'' وهو إطار دولة وصاحب مقهى للأنترنيت بالشارع الذي تجلس به دنيا للتسول فتفاجأ هو الآخر عندما أبلغناه بالخبر، وقال ''أنا أمر على المكان الذي تجلس فيه هذه الفتاة وكنت دائما أتبادل معها التحية، فهي فتاة هادئة ولكن لم أشك يوما بأنها تدرس ولكن يجب أن يعرف الجميع قصتها لأنها ستكون عبرة لأترابها وإلى الأجيال القادمة، كما يجب على السلطات مساعدة هذه العائلة، لأن من تتحصل على معدل كهذا وهي في هذه الظروف فأي معدل ستحصل عليه إن توفرت لها ظروف ملائمة.