نحتفل في بحر هذه السنة بالذكرى الخمسين لاستقلال بلادنا، غير أننا، مع الأسف، لا نشعر بضرورة التوقف بضع لحظات لكي ننظر صوب المسافة التي قطعناها، ذلك لأن الحياة حوالينا تتسارع ولا تترك لنا فرصة للتأمل. وليس هناك شك في أننا أنجزنا أشياء كثيرة خلال هذه المدة الزمنية، وارتكبنا قسي الوقت نفسه الكثير من الأخطاء. وليس هناك شك أيضا في أننا حاولنا غير ما مرة تصحيح تلك الأخطاء بحكم أنها تلاحقنا لأنها كانت أخطاء من قبيل الكبائر وليس من قبيل اللمم على حد التعبير القرآني. وكل واحد منا في هذه الجزائر يكون قد سجل في دفتره الذاتي ما يفخر ويباهي به، وما قد يسوءه فيها. وعليه، يحق لي كمواطن جزائري عاش هذه المدة الزمنية وعايشها من أولها إلى يومنا هذا أن أشير إلى ما قد أحرجني فيها، وأعني به جانب الاستبداد بالرأي لدى أهل الحكم منذ أن افتكت الجزائر استقلالها افتكاكا. لقد شعرت دائما وأبدا بأن الثورة كانت شيئا جميلا، غير أن البعض من أهل الحكم عندنا حولوها إلى وسيلة لفرض آرائهم بالقوة علينا جميعا. استخدموا القوة العسكرية والأمن العسكري لكي يصلوا إلى مآربهم، ولكنهم لم يصمدوا في الساحة، ولم تصمد وسائل الحكم التي أرادوا فرضها علينا بالقوة. كانت الاشتراكية مفروضة بالقوة، وهذا ما شعرت به طيلة هذه المدة، بل إن الثورة الزراعية التي كان يفترض فيها أن تغير وجه الجزائر كانت مفروضة بالقوة، وأنا مقتنع بذلك. ومن أراد البرهان فعليه أن يعود إلى افتتاحية مجلة الجيش في عام 1971، تلك الافتتاحية التي جاء فيها ما معناه بأن الجيش سيضرب على يد كل من تسول له نفسه الاعتراض على تطبيقها. ونحن نعرف اليوم المصير الذي آلت إليه الثورة الزراعية، ونعرف تلاعبات أولئك الذين كانوا يطبقونها انطلاقا من مكاتبهم الوثيرة قي معظم الأحيان. والتسيير الاشتراكي للمؤسسات عرف هو الآخر نفس المصير. ما عاد هناك مطبلون ولا مزمرون في الحلبة. ولا أحب في هذا المقام أن أعدد الجوانب التي استخدمت فيها القوة للوصول إلى هذه الغاية أو تلك، فهي كثيرة، في الصحافة وفي الإذاعة وفي السينما. لو أن الجزائري كان مختارا مخيرا في شؤونه لما وصلنا إلى ما بلغناه من مذلة وهوان في أكتوبر 1988، ولما عرفنا موجة الإرهاب الديني الذي عشناه طوال عقدين من الزمن، ولما تجرأ علينا الشواذ من أهل السياسة في العالم العربي، بل ومن جيراننا، حتى أراد كل واحد منهم التدخل في شؤوننا، وعلى رأسهم العقيد معمر القذافي. أحب القول إن هذا الإنسان الجزائري الذي عرف كيف يقارع الاستعمار الفرنسي يعرف معنى الديمقراطية. والديمقراطية في هذا الشأن لا تحتاج إلى أصحاب شهادات عليا وخريجي جامعات لكي يتم تطبيقها في الميدان. الديمقراطية مثلما قلت لأحد أصدقائي عرفناها ونحن أطفال في حينا نتقاذف كرة القدم المصنوعة من بقايا جلود وورق مقوى. في الخمسينات من القن الفائت. فالطفل الذي كان محظوظا وينتعل حذاءا، كان يتعين عليه أن يخلعه لكي يلعب مع غيره من الأطفال الذين لا أحذية لهم. هذا السلوك في متناولنا جميعا اليوم وغدا، حكاما ومحكومين، أما أن يوكل الأمر إلى الجيش والأمن العسكري لتسيير البلد، فذلك هو المرض الخبيث الذي عانيناه وما زلنا نعانيه في زمننا هذا. وعليه، فليعرف كل واحد منا حدوده وليلزمها، فكلنا سواسية كأسنان المشط في هذه الجزائر.