بين " لغة الخشب " و " حمالات الحطب " تتعرض مختلف وسائل الاعلام العمومية : مكتوبة ومسموعة ومرئية ( سيما التلفزيون ) منذ اقرار التعددية الاعلامية في الجزائر مع بداية التسعينات ، ودون توقف إلى قصف مكثف ، وانتقادات إلى حد التجريح أحيانا ، من أوصاف ومعرات على أن هذه الوسائل شواهد عن الرداءة ، والانحطاط ، والتخلف ، والعبء الثقيل الذي يجب التخلص من أثقاله ... بكلمة محددة : دعوات متواصلة بانهاء و ربما حل هذه المؤسسات التي ألحقت بها زورا ( ربما بقصد تعميق القناعة وتوسيعها لدى ما تبقى من المدافعين عن القطاع العام ) تهمة تبذير المال العام . هل فعلا هي كذلك ؟ . وهل هي زائدة دودية يجب قطعها ؟ . واقع وسائل الاعلام العمومية ، والصحافة المكتوبة العمومية على الخصوص يحتاج فعلا إلى تشخيص دقيق و إلى تشريح الأسباب التي أدت إلى هذه الوضعية . التشخيص لا بد أن ينطلق من سؤال كبير : هل فعلا لم نعد بحاجة إلى الصحف العمومية ؟ لأنها تدهورت وانحرفت ولم تعد تقوم بدورها الاعلامي على أحسن حال ، كأداة تعبير ومنبر لنقل انشغالات الناس والمواطنين القراء ، أي ابتعدت عن مهمة أداء الخدمة العمومية ؟ . وكلمة " لم تعد " يعني أنها كانت من قبل تقوم بهذا الدور بصورة أفضل حتى لا نقول على وجه كامل ، ومن ثمة ننجر إلى الجزء الثاني من السؤال السابق : لماذا لم تعد كذلك ؟ . أي ما أسباب تدهورها ؟ . تأثير الجريدة المعيار الأول عند ايمار وأليكسا الاستناد إلى لغة الأرقام ( سيما أرقام السحب والمبيعات والتوزيع ... ) قد يعطي المبررات الكافية ، ولا أقول الشرعية أو الحق الثابت للذين يقودون الحملات والاتهامات والقصف المتتالي ضد كل ما هو عمومي . صحيح أن التحدث بلغة السحب والمبيعات يستدعي " العموميين " إلى جهد أكبر ، لرفع المبيعات وأرقام السحب ، رغم أن الصحف العمومية لا تحتل المراتب الأخيرة ضمن أكثر من 140 نشرية وطنية . بل هي ضمن العشر الأوائل أي كوكبة المقدمة سحبا ومبيعات بنسب مقبولة ، وفي مقدمة الجرائد العمومية تأتي النصر التي تحتل الرتبة الأولى منذ سنوات . وحتى ما تعلق بجانب السحب فإن الأمر يحتاج إلى تدقيق . كثير من الجرائد لا تكشف عن نسبة المرتجعات . ولا تتحدث عن أطنان ما لا يباع فيسترجع بالشاحنات ليحول إلى مصانع الكرطون الموجه إلى تعليب البيض . أرقام السحب المرتفع أصبحت تستغل للترويج الاشهاري وفي عملية التأثير على المتعاملين الاشهاريين ، وفي استقطاب الرأي العام أي القراء ، دون أن يجعلنا لا نقر بنجاح بعض الصحف فعلا سحبا ومبيعات . و يجب أيضا أن نشير بأن أرقام السحب وفي غياب مراصد علمية حيادية وموضوعية دقيقة لم تعد وحدها المقياس الوحيد للحكم أو تقييم نجاح الجريدة أي جريدة . لذلك فإن المركز الأمريكي " اليكسا " أو المركز الفرنسي " ايمار " على سبيل المثال أعطيا الأولوية ، وأهمية أكبر لمدى وقع الجريدة . من ذلك فإن عملية السبر التي أجراها المركز الفرنسي " ايمار " خلال شهر أوت الماضي والخاصة بالصحافة الجزائرية ، رتب فيها الصحف من حيث التأثير في الرأي العام والوقع عند القراء ، وجاء الترتيب تباعا : الوطن ثم الخبر فالشروق ( صحف خاصة ) ثم النصر ( جريدة عمومية ) . في حين جاء ترتيب المركز الأمريكي لشهر جويلية على النحو التالي : الوطن ثم الخبر . واحتلت جريدة النصر الرتبة الثالثة بالنسبة لمركز " أليكسا " . أوردنا هذا السونداج للتأكيد بأن الخبراء لم يعودوا يولون الأهمية المطلقة لأرقام السحب التي دخلت هي الأخرى في لعبة التجارة ومنطق السوق كأية سلعة أخرى . هذا لا يعني أيضا بأن أرقام السحب لم تعد مهمة ، بل العكس تماما ، لأن انتشار الجريدة يقاس أيضا برقم سحبها ، شريطة أن يكون رقما دقيقا يرتبط فعلا بنسبة مرتجعات مقبولة ومؤكدة . الصحافة كماء النهر لابد أن تتجدد باستمرار يقول أستاذ الصحافة المعاصرة جوزيف بوليتزر ، " إن الصحافة كماء النهر الكبير ، تتجدد باستمرار . وأن الجريدة تولد كل يوم " . من هذا المنطلق ، نعتقد بأن الصحف العمومية هي الأخرى بحاجة إلى مشروع " مارشال " حقيقي لتطويرها وتحديثها حتى تنهض وتغير ما بنفسها . تغيير يتطلب شرطين أساسيين : الاحترافية والكفاءة ، دون أن ننسى توفر الوسائل والظروف الكفيلة باحداث تلك الانطلاقة . هل الصحف العمومية رديئة ومتخلفة إلى الدرجة التي تقدم بها إلى الرأي العام من قبل منافسيها الخواص ؟ . ثم إذا كانت على هذه الحالة فمن المفترض أن تخلفها هذا ووضعيتها السيئة والمتدهورة " تسعد وتفرح " الذين يتمنون اختفاءها ؟ ، فلماذا ينزعجون ويقلقون من وضعيتها ؟ . الاشهار العمومي يذهب إلى الخواص بنسبة 88 بالمائة واقع الصحف العمومية لا يلغي ارادة ورغبة وجهود وتضحيات المنتمين إليها ومسؤوليها في التطوير والعصرنة والاقلاع ... كما لا ينفي مدى ما تتوفر عليه هذه الجرائد من طاقات وأقلام وكفاءات صحفية شابة تتمتع برغبة وارادة البذل والتحسين وتقديم الاضافة والاستفادة مما يمكن أن نطلق عليه الممارسة والتجربة المتواصلة والمستدامة . أولا ، إن الصحف العمومية لا تتعدى ست ( 06 ) صحف ضمن ما يفوق مئة وأربعين ( 140) صحيفة .. فلماذا تنصب الانتقادات عليها دون سواها ؟ . واذا كنا ربما قد نتفهم خلفيات الهجوم والحملات أو الاساءات المتكررة ضد التلفزيون والاذاعة ، دون تزكيتها أو مجاراتها ، بل نحن نرفضها أصلا ، بدعوى أن ميزانياتها من المال العام ، فالأمر ليس كذلك بالنسبة للصحف العمومية المكتوبة . فهي تعتمد أساسا وفقط على مبيعاتها ومداخيلها الاشهارية كمثيلاتها الخواص ، مع العلم أن نسبة استفادة كل الصحف العمومية مجتمعة من الاشهار العمومي لا تتعدى ( 22 في المئة ) وباقي الاشهار يوزع على الصحف الخاصة ( أي نسبة 88 في المئة ) ، فما هي الخلفيات الحقيقية لهذه المغالطة اذن ، بايهام الرأي العام على أن الصحف العمومية عالة وعبء على الدولة وأنها تصرف من " جيب الدولة ". نحن من الذين يرفضون جملة وتفصيلا ، التمييز والتفرقة بين القطاع العام والخاص . فكله قطاع وطني . ويفترض أن يتبنى أساسا الخدمة العمومية ، ويشترك أيضا في الدفاع عن هموم المواطنين وانشغالات الناس ومصالح الوطن .. ورأس المال سواء كان خاصا أو عاما ليس ولا يجب أن يكون معيارا لقياس أو تحديد نسبة الوطنية ، كما يسعى البعض إلى اقرار ذلك في الأذهان لظروف ما . إذا سلمنا تجاوزا بأن الصحافة العمومية " متخلفة " وعبء على الدولة وعلى الآخرين ، فلا بد أن هناك أسباب أدت إلى هذه الوضعية . في بداية تحديد الأسباب ، علينا أن نعلم ونذكر الذين لا يعلمون أو يجهلون أو يتناسون متعمدين من باب التغليط ، بأن الصحافة العمومية متواجدة وناجحة حتى في الدول التي تتبنى أنظمة ليبرالية قصوى وأنظمة اقتصاد حر كبريطانيا وفرنسا وألمانيا ... وعلينا أيضا أن نقر بأن المكانة التي تحتلها الصحف العمومية حاليا بالامكان أن تكون أفضل وأكثر استقطابا للقراء والمشاهدين والمستمعين . الوضعية الحالية ناجمة أساسا عن جملة من الأسباب والظروف التي عطلت نموها ونهضتها واقلاعها . نحاول أن نحصرها في النقاط التالية : الصحافة العمومية تدفع فاتورة أخطاء سياسية تقديرية الصحف العمومية المكتوبة على الخصوص ، تدفع ثمن أخطاء سياسية تقديرية لحكومة السيد مولود حمروش تحديدا . لقد عمدت حكومة ما عرف ب " حكومة الاصلاحيين " إلى اقرار تعددية اعلامية أباحت فيها حياة ووجود و " رزق " الصحافة العمومية بتجريدها من مطابعها ومقراتها ومؤسسة توزيعها وكل ممتلكاتها وموارد رزقها ، ومن ثمة تسريح عمالها ، وتهجير كفاءاتها باغراءات ودعم غير محدود ، مالا وامكانيات مادية ( سيارات ومقرات وتجهيزات ...) لانشاء مؤسسات اعلامية خاصة . لم نكن ضد التعددية الاعلامية . بل كنا من المتبنين والمدافعين عن الانفتاح والاقتصاد الحر . لكن ما لم نفهمه إلى يومنا هذا : لماذا عمدت السلطة إلى تكسير القطاع العام لافساح المجال لانشاء الصحف الخاصة ؟ . من حق السلطة أن تختار توجهها في بداية التسعينات كيفما أرادت ، لكن لماذا اختارت منطق وأسلوب " تخريب " المؤسسات العمومية في مسعاها ؟ . الاقتصاد الحر يقوم أساسا على تكافؤ الفرص وتوازن الدعائم والمنطلقات ، ولا يقوم على منطق الالغاء . هل يمكن الحديث عن التنافس وتكافؤ الحظوظ والفرص بعد هذا التحطيم المتعمد مع سبق الاصرار والترصد ؟ . الصحافة العمومية : أن تكون شريكا للسلطة وليس أداة الصحافة العمومية تواجه يوميا متاعب أخرى مع السلطة ، وداخل أقسام التحرير بسبب جدلية تفسر وتفصل وفق كل طرف من الصحافي إلى رئيس القسم فرئيس التحرير إلى مسؤول النشر ، ومن رئيس البلدية إلى الوالي ، ومن الوالي إلى الوزير ، ومن كل مسؤول أزعجه مقال صحفي نشر اعتقد بأنه اساءة أو قذف ... جدلية : مفهوم الصحافة العمومية في أذهان الناس والمسؤولين على الخصوص الذين يعتقدون بأن الصحف العمومية جزء من السلطة والحكم ، لا يجوز لها نشر ما يزعج ولو كان موثقا وبأدلة قاطعة ؟ ، وحتى وإن نشرته الصحف الخاصة تزامنا فذلك غير مزعج ولا يكون مبعث احتجاج أو غضب المسؤول ؟ . القراء مازالوا يعتقدون بأن الصحف العمومية لا تتمتع بالحرية الكافية . فهي لا تقول أو تنشر الحقيقة . ولا تكتب إلا ما يرضي السلطة والمسؤولين . والسلطة أو كثير من المسؤولين على الأقل ، وفي مختلف المواقع لا يفرقون في أذهانهم وأحيانا في قناعاتهم بين صحافة الخدمة العمومية والصحافة الحكومية . فهذه الأخيرة هي أقرب إلى مفهوم الصحافة الحزبية . والخدمة العمومية من المفترض أن تكون مهمة ورسالة كل الصحافة الجزائرية خاصة وعامة على السواء . وتحضرني حادثة ، قبل سنوات في اجتماع رسمي ضم كل الزملاء مع وزير سابق للاتصال ، حول سبل النهوض بالصحافة العمومية لما قلت بأن الاصلاح يبدأ باصلاح المفاهيم أولا في أذهان المسؤولين المباشرين ، للفصل بين مفهوم الخدمة العمومية ( الصحافة العمومية ) والصحافة الحكومية التي هي أقرب إلى الحزب الحاكم .. معالي الوزير المحترم يومئذ لم يعجبه تدخلي وامتعض كثيرا ... أجاب " كيف ، كيف " ، أي هي نفسها . أعتقد بأن تحديد المفاهيم والمصطلحات في أية عملية اصلاحية هو الأساس لكل منطلق . والمنطلق لا بد أن يستند إلى ارساء شراكة فعلية ، وتحديد وظيفة كل طرف وحمايته بقوة القانون والدستور : حق المواطن في اعلام محترف ، موضوعي ، مسؤول يقوم على مبدإ : الخبر مقدس والرأي حر . بعيدا عن القذف والتهريج والافتراء والتحريف ومنطق تصفية الحسابات . إذ لا بد أن يستقل الاعلام أيا كان خاصا أو عاما عن الصراعات وتجاذبات السياسيين و مجموعات الضغط ... بتعبير أدق أن لا يكون طرفا ، أن تكون طرفا فهذه مهمة وخصوصية الاعلام الحزبي والحكومي ، في دولة تعددية حقيقية . في الوقت الحالي لا لون للاعلام الجزائري . لقد انحرف انحرافا خطيرا عن مهمته الأساسية ، وأصبح الخصم والحكم ، هو المحقق ، وهو الواعظ ، وهو القاضي وهو الجاني ، وهو الضحية ،،، في انتظار فرز السوق وتحديد من هو الصحافي أولا ؟ قبل أن نتحدث عن دوره ووظيفته ؟ ، وقبل أن يوضع ميثاق أخلاق المهنة ، لتحديد ضوابط العمل والنشر الصحفي ... في انتظار ذلك فإن أول من يدفع فاتورة فوضى السوق هو الاعلام العام ، لأن دفع الضرائب وتأمين كل الصحافيين والمراسلين والمتعاونين ، وتطبيق اتفاقية الأجور الأخيرة ، ومسح مديونية المطابع " على آخر دورو " كما يقول المثل ،،، يبدو أن الصحف العمومية وحدها ملزمة به ، أو على الأقل في مقدمة تنفيذ هذا الواجب دون أدنى ضجيج وبكامل مسؤولية . ع / ونوغي ابتعدت عن الاحتراف وسقطت في قبضة الاشاعات و" الجماعات " السلطة الرابعة : الانحراف الكبير حين ترتفع أصوات من " داخل الدار " نفسها ، تعلن غضبها وامتعاضها وانتقادها لما آلت إليه الصحافة الجزائرية من تدهور وانحراف وتقهقر وبريكولاج ... فهذا يعني أن صرخة من تبقى من أهل المهنة على قياس : " شهد شاهد من أهلها " ، تعكس بأن الوضعية لم تعد تطاق وأن واقع وأركان ما توصف مجازا بالسلطة الرابعة أصبحت في خطر ، ليس بسبب تدهورها الداخلي وانحرافها عن مثل وأسس ممارسة الصحافة ودورها الفاعل في الدفاع عن الحريات وفي عملية الاخبار ( بكسر الألف وتسكين الخاء ) بموضوعية ومسؤولية ونزاهة ، ودورها في بناء المجتمعات وتنويرها ، ولكن بسبب أخطر ، وهو تحولها إلى عامل هدم وزعزعة وتشهير وإشهار وقذف و إخلال بكل مكونات ومقومات المجتمع الهادئ ، نتيجة ابتعادها وانحرافها عن دورها الرئيسي الذي هي أصلا وجدت لأدائه : واجب الاعلام والدفاع عن حق المواطن في الاعلام والتعبير الحر بكل موضوعية واحترافية ومسؤولية ... لقد باتت الصحافة الوطنية تتبنى أدوارا و " مهمات " في كثير من الأحيان والأحداث " قذرة " حادت بها عن نبل المهنة والتزاماتها ، وزجت بنفسها في مواقع ومستنقعات تقوم على صراعات العصب والجماعات ، سواء كانت لوبيات مالية مافيوية أو لحسابات تموقعية ... من وظيفة الشاهد إلى .. صفة الطرف انحراف أخرجها من صفة " الشاهد " إلى طرف فاعل يزج به لتصفية حسابات ولاخراج ملفات ... في غالب الأحيان تسرب إلى " كتاب " ولا أقول صحافيين ، لتلك المنابر الاعلامية معلومات بالمقاس ، منقحة ، معدلة بحسب الغرض والطلب ... وأحيانا أخرى يملى على بعضهم ما تجب كتابته دون زيادة أو نقصان ، حتى وإن تم الاخراج تحت صياغة : ( مصادر موثوقة ، مصدر مؤكد ، مصادر مقربة من هذه المؤسسة أو الهيئة السامية ، أو الجنرال اكس ...) . وضع يجعل كاتب الموضوع أو المقال أو صاحب التقرير والملف أو التعليق في حالة تشبه " شاهد ما شافش حاجة " ، لأنه ببساطة لا يملك من تفاصيل وخلفيات الموضوع والمعلومات التي سربت إليه ومعلومات الملف الذي يحمل توقيعه واسمه ، سوى ما قدم إليه في الخفاء ، أو تحت الطاولة ، أو في مطعم ، أو في حانة ، أو حتى بمناسبة عرس ... بعد ذلك ينشر الخبر بصورة واخراج على أنه سبق صحفي .. سرعان ما تذروه الرياح كما يقول المثل ، أو يسقط من تلقاء نفسه لمجرد تصريح رسمي أو وثيقة تؤكد العكس تماما ... وحتى في حالة عدم الرد ، فإنه مع مرور الأيام ينجلي الوهم ، ويسقط الافتراء ، فتنكشف المغالطة .. لكن صحيح أيضا بأن كثيرا من المغالطات والافتراءات وحتى وإن أتبعت بالاستدراك والتصحيح لاحقا ، وأحيانا بالاعتذار للمعني فإنها لا تمحي الضرر الناجم عما نشر أول مرة من أذهان الناس ولو كان افتراء وكذبا وتلفيقا . حدود الخبر وحدود التعليق من أبجديات الصحافة : الخبر مقدس والتعليق حر . لكن هذا المفهوم لم يعد يعمل به لدى الكثير من الوافدين على الصحافة ، تفاديا لكلمة الدخلاء . إذ لم يعد يفصل بين حدود الخبر وحدود التعليق . بل الأسوأ ، هو أن بعض وسائل الاعلام لم تعد تنشر الخبر أصلا ، أو على الأقل تنشره مشوها وغير مستوف لعناصره المتعارف عليها ، ومن ثمة تكتفي بالتعليق والأحكام على خبر مجهول . الخبر الصحفي ينتزع ولا يمنح كالصدقة الجارية خبراء المهنة وروادها ، الذين لم تدركهم قبضة " الجماعات " ولم يتأثروا بالمساومات والاغراءات ، يجزمون بأن الأخبار الصحفية كالحرية تنتزع ولا يجب انتظارها أو تعطى بصفة " الصدقة الجارية " . ولعل أوجينيو سكالفاري ( مؤسس صحيفة الجمهورية الايطالية ) كان مصيبا إلى أبعد الحدود حين نبه عام ألفين ( 2000 ) خلال المنتدى الدولي ببولونيا الايطالية إلى خطر الاتكالية التي باتت تميز الأجيال الجديدة من الصحفيين والناشرين الذين باتوا " ينتظرون " الأخبار في مكاتبهم ، وتخلوا عن مهامهم كصحافيين ، باحثين ومنقبين عن الأخبار . ووصف الأمر بظاهرة الكسل التي باتت تطبع وتميز شريحة واسعة من الصحافيين وهم بذلك لا ينقلون الحقائق إلى قرائهم ومشاهديهم ولكن ما يعتقدون أنه الحقيقة . لأنهم ينقلون أخبارا وصورا لم يستنبطوها بأنفسهم ولكن من خلال ما نقل إليهم لأغراض هم يجهلون خلفياتها ودقائقها ، أي ما سرب إليهم لأغراض هم يجهلون مراميها عند النشر .. وإذا تفطنوا بعد ذلك إلى أنهم أخطأوا أو أنها أخبار مغلوطة أو " مفبركة" يكون التصويب والاستدراك في الوقت بدل الضائع ضعيف التأثير والوقع ، قياسا بما نشر لأول مرة .. إلى جانب جماعات المال وسلطة الاشهار وضعف التكوين وكابوس البطالة الذي حول مهنة الصحافة والصحفي إلى ما يشبه المهن الأخرى أي ككل وظيفة أو خدمة في أي مؤسسة توفر أجرا لتوفير الخبز وبناء أسرة وتوفير سيارة ومسكن وبعض الامتيازات التي قد لا توفرها وظائف أخرى ، من أجل استقرار وعيش كريم .. إضافة إلى ما سبق ، فإن الخطر يتأتى أيضا - على الأقل بالنسبة للصحافة المكتوبة – من تراجع المقروئية بفعل أسباب وعوامل عديدة ، أبرزها تكنولوجيات الاتصال الحديثة ( الانترنيت على الخصوص ) ، وبفعل أوضاع مختلفة : سياسية واجتماعية ومهنية ...كلها عوامل أدت إلى انزلاق الصحافيين وصحفهم إلى الذاتية والاثارة والابتعاد عن المهنية والاحتراف .. ولم تعد قيمة الجريدة فيما تنشره ، أو تستمد فعاليتها ونجاحها من نوعية الأسماء التي تكتب على صفحاتها ، أو من مدى قوة المواضيع و مصداقية الملفات التي تنشرها ، ولكن بقياس ولاءاتها واثاراتها ، ومن عدد صفحاتها الاشهارية ( ........ ) . لذلك فلا غرابة أن يتزايد عدد الصحف والمنشورات في بلادنا لتتعدى 140 نشرية ، غالبها لا يسحب يوميا أكثر من 1000 نسخة ، متسببة في أزمات تقنية لدى مختلف المطابع ، لأن تلك الكميات تترك أكداسا عند باب المطابع ، وما يهم أصحابها ليس أن توزع ولكن نسبة الاشهار فيها .. دون أن نشير إلى محتوياتها وما تنشره من حشو وسطو وسرقات من المواقع الالكترونية ومن مختلف المواقع الاخبارية دون أن تشير إلى المصدر على الأقل من باب المسؤولية الأخلاقية ... لذلك أصبح القارئ متعودا على مطالعة أخبار سبق نشرها في منابر أخرى أو مواقع الكترونية ... ثم أعيد نشرها من باب الحشو وملء المساحات وصفحات الجريدة .. الانترنيت هي أبلغ انتقام للقراء من الصحافة المكتوبة مدير جريدة لوموند كان صرح قبل أعوام مستشعرا هذا الخطر : " ... الموضوعية ليست أكثر من طموح ورغبة ، وليست واقعا ، ونحن الصحافيين لسنا مسلحين سوى بالانطباعية والأحكام الفردية .. " . وهو نفس ما ذهب إليه مدير أسبوعية لوبوان الفرنسية حين صرح : " ... النظام الاعلامي لم يبلغ بعد النضج المطلوب ، ووسائل الاعلام لم تبلغ سوى جزءا من الواقع والحقيقة ... وحتى وإن كانت في بعض الأحيان لم تتعمد المغالطة والافتراء ، فالنتيجة واحدة .. والاحترافية مازالت بعيدة المنال ..." . واقع وتخوفات حسمها مسؤول نشر صحيفة الوقت الألمانية بالجزم : " ... لقد ابتعد الصحافيون كثيرا عن الواقعية والاحترافية ، بل ابتعدوا أكثر عن الطموحات والانشغالات الحقيقية لقرائهم ومشاهديهم ... وأضاف " أن الانترنيت هي أبلغ صورة عن انتقام القراء والمجتمعات المدنية من وسائل الاعلام المعهودة ... " . يقاربه موقف الفيلسوف الكندي بيار لوفي الذي اعتبر بأن الانترنيت تسمح بفضاء تعبير أكثر حرية ، وأن المواقع الاجتماعية ( الفايس بوك وتويتر ...) هي مواقع التعبير الأكثر مصداقية وقربا من الناس ...يقول أهل الاختصاص والمهنة بأن الانحراف الذي تشهده الصحافة في بلادنا يورط الجميع دون استثناء . أي أن المسؤولية مشتركة . تبدأ من خرق القانون الذي حصر تأسيس الجرائد في أهل الاختصاص ، اذ يعطي الامتياز والحق للصحافيين المحترفين دون سواهم في تأسيس الجرائد ، لكن رغم وضوح هذا المعيار أو القانون فلم يعد يؤخذ به . قد يصبح مسؤولا للنشر أيا كان : زلابجي ، أو فلاح ، أو خباز ، أو تاجر ما ، أو مقاول ...نحن ندرك بأن من حق أصحاب المال وذوي النفوذ انشاء جريدة أو أية وسيلة اعلامية أخرى كفتح قناة تلفزيونية ، لكن لا يجب أن يتعدى ذلك الجانب المالي أي التمويل ، لأن مسؤولية النشر والتحرير مقيدة قانونا بالصحافيين المحترفين دون غيرهم . السؤال : هل هذا الالزام مطبق ومعمول به ؟ . الجواب علمه عند الجميع .عدم الالتزام بتطبيق القانون ، أفضى إلى كارثة أخرى ، حيث أصبحت الساحة الاعلامية في واقع وصورة تشبه " السوق " . لقد فتح الدخلاء على المهنة أبواب التوظيف والتعاون وممارسة المهنة أمام من هب ودب . وصار كل من يكتب " حرفا " صحفيا ...القطاع بحاجة إلى غربلة حقيقية ، وإلى فرز بين الصحافي وغير الصحافي .. حين يتم الفصل في هذا السؤال يمكننا أن نفتح النقاش الواسع حول منطلقات وشروط الاحتراف الحقيقي .. في الوقت الراهن عمليات الدوس على مهنة الصحافة ، و " اهانتها " من طرف سلطة المال وجماعات الذين اندسوا داخل المؤسسات الاعلامية بأموالهم وأتباعهم من حاملي شهادات الميلاد كديبلوم وحيد ، أو على الأقل بعضهم هم الذين ينشئون الصحف ويفتحون القنوات في غياب الصحافيين الذين أصبحت كل أحلامهم وآمالهم وأقصى مطالبهم : أجر محترم وتصريح لدى الضمان الاجتماعي ، .. في انتظار ثبوت الرؤية ، أجر غالبية الصحافيين والمراسلين على الخصوص في ما نعتبره تجاوزا جرائد ، أو ما يشبه مؤسسة اعلامية ، أجر هؤلاء على الله .