إلى جانب الكتب السماوية التي أثرت بعدد كبير من الناس، هناك أيضاً كتباً علمية وفلسفية استطاعت تغيير آراء الناس ومعتقداتهم الفلسفية من أجل خير الإنسان والبشر.. فمن الدين والفقه، مرورا بالسياسة والاستراتيجية..وصولا إلى العلم والاقتصاد.. احتفظت هذه الكتب دوما بوقع عظيم ومستمر في الحضارة والإنسان. هو الحسن بن محمد الوزان، الرحالة المغربي المشهور باسم "ليون الإفريقي"، ولد في مدينة غرناطة وانتقلت أسرته، وهو صغير، إلى مدينة فاس، حيث شب والتحق للدراسة في جامع القرويين. ثم عمل بعد ذلك لدى السلطان محمد الوطاسي، المعروف ب«البرتغالي"، الذي قربه وكلفه بعدة مهام دبلوماسية، مما جعله يكتسب معرفة كبيرة ببلاد المغرب وإفريقيا وبعض البلدان الشرقية والأوربية، وهو ما شجعه على كتابة مؤلفه "وصف إفريقيا". أثناء عودته من تونس، سنة 1519، من إحدى رحلاته، وقع أسيرا في يد قراصنة صقليين قدموه للبابا جون ليون العاشر في مدينة نابولي الإيطالية. هناك، تم تنصيره وتسميته ب«ليون الإفريقي" أو "يوحنا -الأسد الغرناطي" وكُلِّف بتدريس اللغة العربية لرجال الكنيسة، كما تعلم اللغة اللاتينية وألّف بها عدة كتب، منها معجم عربي -عبري -لاتيني وكتاب في التراجم و«وصف إفريقيا"، وهو القسم الثالث لكتاب الجغرافيا العامة، الذي ضاع الجزءان الأول والثاني منه... تشير المصادر إلى أن "ليون الإفريقي" اختفى من روما، في ظروف غامضة، حوالي 1550 ورُحِّل إلى تونس، ومن ثم انقطعت أخباره، فلا يُعرَف أعادَ إلى بلاده أم بقي في تونس؟... ويُرجَّح أنه توفي في نفس السنة.يقدم حسن الوزان في كتابه "وصف إفريقيا" وصفا دقيقا لمدينة فاس، خلال القرن السادس عشر، بكل مظاهرها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمعمارية. لا يمكن أن نتوقع من كتاب كهذا أن يرفع اللبس تماما عن شخصية "ليون الإفريقي" ويزيل كل مناطق الظل في حياته. لكن ميزته أنه يفرز الغث من السمين ويورد مختلف الروايات المتداولة، مصنفا إياها وفقا لدرجات وثوق مصادرها، لينتهي إلى صيغة لا تدعي المؤلفة أنها تمثل "الحقيقة التاريخية المطلقة" بل "الوجه الأرجح" لتلك الحقيقة... أدركت ناتالي زيمون ديفس أنها إذا سعت إلى إسقاط كل المعلومات والأخبار غير المؤكَّدة أو تلك التي تتضارب بشأنها المصادر التاريخية، فلن يبقى لها من "ليون الإفريقي" أي شيء يذكر... فلا شيء مؤكدا عن حياته وسيرته، سوى ألقابه الثلاثة التي عُرِف بها في مختلف مراحل حياته، وبقيت منها آثار مخطوطة، وهي "حسن الوزان" ثم "يوحنا الأسد" ف«يوهانيس ليو". أما لقبه الأشهر "ليون الإفريقي"، فلم يظهر إلا لاحقا، وهو من ابتكار ناشري أعماله، بعد وفاته. بعض أعمال الوزان مفقودة أما التي وصلت فنجد بينها كتاب تراجم لبعض الأطباء والفلاسفة العرب أتمه عام 1527. يعد كتاب "وصف إفريقيا" أهم مؤلفات حسن الوزان، إذ كان له تأثير كبير عند الرحالة والعلماء الأوربيين، منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، وليس بإمكان أي باحث عن تاريخ إفريقيا تجاهل المعلومات الواردة فيه، خاصة عند المستشرقين، وعلى رأسهم المستشرق هارتمان، الذي يعتبر كتاب "وصف إفريقيا" كنزاً من الذهب، ولولا وجوده لَخَفيتْ على أوربا أشياء كثيرة.. ذكر بعضهم الآخر أن مادته تمتاز بالدقة الشديدة، ولم يصل إلينا سوى الترجمة الإيطالية التي أنجزها "ليون" نفسه. تتجلى قيمة كتاب "وصف إفريقيا" في ملاحظات المؤلف الشخصية التي كان يبثها في ثناياه بين الفينة والأخرى، وشعاره دائما وصف ما شاهده بأم عينه وما قرأه في الموثوق من المؤلفات، ولكنها ضاعت منه، في ظروف الأَسْر، ثم عندما استقر به المقام في روما، شرع في تصنيفها، حتى انتهى من تدوينها في مارس 1526، باللغة الإيطالية... وقد صنَّف الوزان في روما عدة مصنَّفات، فُقِد بعضها وسلِم بعضها من الضياع، لكن أهمية كتاب "وصف إفريقيا" وشخصية "ليون الإفريقي" هو تحوله إلى رمز للتسامح وحوار الأديان، وهذا ما أجاد الروائي الكبير أمين معلوف في وصفه، روائيا، بلغة جميلة وراقية، أظهر فيه "ليون" مفعما بالإيمان العميق بالإنسانية التي تقوم -بشكل أساسي- على روح التسامح، فهاجسه هو الجمع بين الديانات والتوفيق بين الأخوة /الأعداء، فهو نقطة التقاء بين الثقافات والأمم، فهو يقف على الحياد من كل صراعات الحضارتين العربية والغربية: الحياد من الصراعات والتناقضات والحروب الدائرة بين الطوائف والجماعات والأمم.. لتتحول شخصية "ليون" إلى رمز للتواصل والتعايش بين الحضارات، وهذا هو الدرس الكبير الذي قدمه "وصف إفريقيا" للعالم.