بقلم: العيد بن منصور/ الجزائر إلتقيتها على غير موعد ، هناك على تخوم الريف الوالوني الجميل ، سعيدة هائمة ، ترفل في حلل الطبيعة الساحرة ، في ذلك الصيف الربيعي الرائع بخضرته و صفائه . كانت الشمس تطلع على البلاجكة بعد غياب طويل ، فتشرق في قلوبهم مثلما تسطع في وجوههم و أعينهم و كأنهم عند كل بزوغ لها يكتشفونها أول مرة . إلتقيتها و قد شدني حسنها و أدهشني وجودها في مثل هذا المكان ، فكانت المفاجأة بهذا اللقاء تزيد من إعجابي و تلقي علي مزيدا من السكينة ، و أنا الذي كنت أشعر بشيء من الغربة و بعد المكان و اختلافه . أتحدث عن ثلاثة أحمرة ، عند أسفل البيت الذي كنت أقيم فيه ، يمتد مرج أخضر فسيح ، يستطيل مع امتداد البصر و يسكن عند أفق السماء تتخلله عند جوار البيت أشجار التفاح و الكرز و الدمسون و البلوط و الكستناء ، و قد ضرب بينها بسياج تقيم في محيطه ثلاثة أحمرة تتمتع بذلك السكون و الجمال و روعة الطبيعة ، و هي سائمة في ذلك الاخضرار المنشرح . لم أكن لأفاجأ لو كان ما رأيت أحصنة مطلقة في بسيطة هذا الريف الأوربي الفاتن ، و لكنها كانت أحمرة أحسست مع وجودها أنني على الأقل لست غريبا في هذا المكان ، و لست أدري كيف تسلل إلى وجداني شعور يقول : الحمد لله أنني لست العربي الوحيد في هذه البقعة المنعزلة المتوارية ، فأنا انتقلت من مكان تكثر فيه الأحمرة ، ففي الواحة الصحراوية التي قدمت منها يساكن الحمار أهلها كمواطن أصلي ، أغراض وجوده كثيرة ، مسخرا في الأعمال التي يؤديها و هو يعاني ضراوة الطبيعة و قساوة البشر . أعترف أنني لم أكن أهتم كثيرا لتلك الأحمرة العربية التي تجوب شوارع مدينتي الصحراوية و أزقتها ، و التي كثيرا ما كانت تركّب على ظهورها عربات لحمل اغراض الناس و أمتعتهم . بسبب هذا الاكتشاف الجميل هنا ، لم أعد أفوت أن أستيقظ كل صباح باكرا ، قبل أن آخذ معي من المطبخ بعضا من رؤوس الجزر ، و أقترب من تلك الأحمرة السائمة في ذلك العشب المندى و كأنني أمشي على صفحة من الماء . كم كنت أتعجب لذلك الوقار الذي كانت عليه تلك الأحمرة في والونيا ، و تلك الهيئة المتقومة ، و كأنها تنتصب في عزة نفس ، و حتى عيونها الكبيرة كانت تتقد جمالا و هيبة ليست فيها استكانة الأحمرة العربية و لا انكسارها الذي يسطو على ظهورها و رقابها و يرتسم في عيونها حزنا دائما يسكن هناك ، و يعكس الذل الذي هي فيه و الهوان . لم أكن أملّ من تأمل تلك الأحمرة الوالونية ، و الاستئناس بوجودها ، و كانت الأفكار التي تساورني في حضرتها غزيرة ، كانت تذكرني – و لست أدري كيف ذلك – بأولئك الذين يركبون أهوال البحر و يعتنقون أسفار الموت للوصول غلى بر يرونه حياة أخرى و جنة نعيم يمحو العيش فيها آثار الضنك الذي يلقونه في أوطانهم حيث لا تختلف أقدارهم هناك عن مكانة الأحمرة العربية المستكينة منكسرة الرقاب .. لم يكن يغيب عن بالي و أنا في صحبة أحمرة والونيا ، أفكار الحرية و حقوق الإنسان و الديمقراطية و نضال الشعوب و تضحياتها في سبيل نيل الحقوق و العيش الكريم .. الحمار العربي جفّال لا شخصية له ، عيناه على طرف رأسه و كأنه يتوقع أن يُختل من خلفه و يؤتى على غفلة و يؤخذ بالخديعة و الغدر ، لا يأنس حتى بقرينه من الأحمرة فهو ينتفض بالصك حتى عندما يحتك بصديقه أو أخيه ، قتلت حياة القمع كل ثقة فيمن حوله و ذلّله الخوف و تمكن من عينيه و قلبه و رأسه . كانت تلك الأفكار تتواتر – و لست أدري لماذا – و أنا محاط بثلاثة أحمرة والونية لا تتزاحم على رؤوس الجزر و لا تتخاصم و هي تتناولها من يدي ، محافظة على وقار أعينها الذي يجللها و شرر الكبرياء فيها كأنما كنا مجموعة من الأصدقاء في مأدبة طعام و نأنس بأجمل الأوقات .. في كل مرة كان يجيء فيها ” فيليب ” ليتفقد أحمرته كنت أقف معه أتأملها و نتبادل أنواع الحديث ، و كثيرا ما كان يحدثني عن جمالها و محبته لها و عن حقوقها التي يكفلها لها القانون مع بقية الحيوانات المنزلية الأليفة ، و كان يعتقد أتم الاعتقاد أن الحمار خاصة من أذكى المخلوقات ، و ظل مرة يحدثني و يشرح لي كيف تحوّرت قصة الحمار الذكي عند الناس حتى أضحى رمزا للبلاهة و الغباء . يا لهذه الأحمرة الأوربية المحظوظة بكل تلك الحقوق و الرعاية التي تلقاها .. أصبحت أدرك أكثر لماذا يسعى كثير من الشباب العربي لركوب الموت و القدوم إلى حيث تعيش هذه الأحمرة ، و ربما سيجيء ذك اليوم الذي ستفكر فيه الأحمرة العربية – إن كان لها عقل – في أن تحرق هي الأخرى لأوربا لتنعم فيها بحقوق المواطنة و الحياة الكريمة و تصبح لها عيون لا ذل فيها و لا استكانة . أما أنا ففي لحظة من اللاوعي ، أصبحت أتصور أنه لا ساكنة على الضفة الأخرى إلا الأحمرة العربية الجفّالة ذات العيون الناعسة ذلا ، و كلها من الطائفة الغبية لفصيلة الحمار ، فلو لم تكن غبية لما ارتضت تلك الحياة و تلك المذلة التي يسميها البعض عزة و كرامة . يا صديقي ” فيليب ” أنت ربما مفتون بجمال أحمرتك الوالونية ، معجب بقوامها و هيئتها ، مسحور بوقارها و هيبتها ، لذلك تريد أن تقنعني بأنها حيوانات ذكية ، ربما ، كلامك صحيح و سأقتنع به و قد رأيت ما رأيت ، فأحمرتكم في والونيا لا شك أنها ذكية و ذات رأس و قيمة ، و حقوقها التي كلمتني عنها لا يتمتع بها حتى البشر عندنا هناك ... قلت هذا لفيليب و أنا في شبه الثورة تهزني في أعماقي ، و قد جرى في عيني شيء من دمع الأسى و الحزن على نفسي أولا و على بقية أحمرة ” عرابيا ” . لم تكن لي رغبة في الحديث عن أحمرة والونيا ، فأنا لا أريد أن أغرر بمزيد من الشباب و الأحمرة و أغريهم بمزيد من ” الحرقة ” إلى أوربا و لا أن أتحمل بسسب كلماتي مزيدا من وزر أولئك الذين يقضون في عرض البحر و هم يرغبون في غاية ما يسعون إليه أن يصيروا أحمرة والونية ذات حقوق و بعيون جميلة لا يرتسم فيها الحزن و لا الاستكانة .