صحيح أن بين المسرح و السياسة رابطة متينة يستحيل فكها أو فصلها عن بعضها ، لسبب واحد هو أن المسرح و منذ نشأته الأولى ظل مهتما بقضايا المجتمع. و حينما نتحدث عن قضايا المجتمع لا يمكن أن نستثني منها الشق السياسي. و كونه اللسان المعبر عما يدور في فلك المجتمع من قضايا اجتماعية و ثقافية و سياسية و حتى إيديولوجية ، فقد تقمص المسرح هذا الدور بجدية كبيرة و اهتمام فائق، ولم تتمكن الفنون الأخرى من منافسته على مهمة تنوير و رفع وعي الشعوب بالدرجة التي جعلته متربعا على عرش باقي الفنون بجدارة و استحقاق. هذا الدور المنوط بالمسرح يشهد له التاريخ خلال الحقبة الاستعمارية التي مرت بها الجزائر ، حيث ساهم رابع الفنون في الترويج للقضية الجزائرية و جلب لها الكثير من الاهتمام و التأييد من خلال عرضه لمسرحيات سياسية ، حيث عمل المسرح على تعميق الكفاح النضالي ضد الاستعمار الفرنسي . و كانت الفرقة المسرحية لجبهة التحرير الوطني آنذاك بمثابة الشعلة التي ترجمت لهيب الثورة إلى مشاهد إبداعية و رحلت به عبر مسارح الدول الصديقة والشقيقة لترد على مزاعم المستعمر بفرنسية الجزائر ، و تظهر في لوحات فنية كفاح الشعب الجزائري في مسرحيات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر «اولاد القصبة» و«الخالدون» و«دم الأحرار» ... و إذا سلمنا بأن السياسة مرتبطة بحياتنا اليومية و هي ما نصدره من مواقف من كل ما يشهده المجتمع من قضايا تستدعي أن نبث رأينا فيها، فإن للمسرح الذي هو أداة توجيه و تنوير دور مهم في التفاعل معها. و من هنا أسأل : باستثناء ما كان عليه المسرح أثناء الثورة التحريرية و مدى ارتباطه بالشق السياسي من خلال طرحه لمسرحيات ذات بعد وطني تحرري كان يشكل الانشغال الوحيد و الأهم للشعب الجزائري و ساهمت بقسط وفير في استقلال الجزائر من قبضة الاستعمار ، فهل بقي للسياسة بمفهومها الصحيح مكان داخل منظومتنا المسرحية منذ الاستقلال و إلى يومنا هذا ؟ أقول و يبقى قولي مجرد رأي من ضمن آراء و قناعات مختلفة أكن لها كل الاحترام و التقدير، بأن اللون السياسي الذي اشتغل عليه المسرح خلال الحقبة الزمنية السالفة الذكر فقد البعض من بريقه حينما استولت عليه إن صح التعبير مجموعة من الناشطين السياسيين المنضوين تحت لواء حزب معين لتجعل منه وسيلة للترويج لمواقفها و قناعاتها و برامجها تحت مسمى المسرح السياسي. و هذه مغالطة كبيرة و خلط مقصود حسب نظري بين السياسة و التحزب. فالذي كان سائدا خلال فترة السبعينيات عند مسرح الهواة الذي كانت تؤطره شخصيات محسوبة على التيار اليساري ، قم انتقل بعدها إلى الجامعة أين أسست تنظيمات طلابية لها امتداد لأحزاب سياسية ما يسمى حاليا بالمسرح الجامعي . و انتقل بعدها إلى بعض التعاونيات المسرحية هو تحزب و ليس تسييس المسرح. في تلك الفترة من الزمن طغى الخطاب الحزبي على العروض المسرحية و انخرطت جل الفرق المسرحية التي لا يزال البعض منها ينشط لحد الساعة في ما كان معروفا بالمسرح الدعائي، و الدعاية هنا لم تكن لمواقف سياسية بمفهومها الشامل لقضايا المجتمع، بل كانت بنظرة حزبية ضيقة متعصبة لفكرة معينة وبلغة و أسلوب خطاب معين. و هنا كان يكمن الخطر ، لكن الرأي الأحادي لم يكن يترك للرأي الآخر مجالا للتنبيه و دق ناقوس الخطر. و ظل المسرح قابعا بإحدى عربات قطار يقوده إلى طريق مسدود. و أصبح مصير مسرح الشعوب مرتبطا بمصير حزب اكتسح فضاء الإبداع و الجمال ليجعل منه بوقا للدعاية الحزبية، وبقي المسرح رهينة التوجه الاشتراكي إلى أن حدث التحول مع ما يعرف بأحداث أكتوبر 1988. هذا التحول لم يمس المسار السياسي فحسب، وإنما أثر في الواقع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي . و مع التفتح السياسي، بدأ المسرح الجزائري يستعيد عافيته و يخرج من المنهج القديم . واخذ يبتعد شيئا فشيئا عن النظرة الحزبية الأحادية للمجتمع لينشغل من جديد بالمنهج الاجتماعي الشامل و الواسع، إلا أن جرعات الشفاء تبقى ضئيلة أمام أثار المرض التي لا تزال بادية. لذا فلنكن كلنا من محببين وممارسين للمسرح حريصين على الحفاظ على المسرح بعيدا عن الصراعات الحزبية الجوفاء و ليكن حزبا للفنانين لا أداة للمتحزبين.