لم يكن من الممكن لرئيس دولة مثل برويز مشرف، أن يُنهي حياته السياسية بنفسه في دولة لا ترحم القادة، مثل باكستان، إلا إذا كان قد أدرك أنها انتهت بالفعل، وأنه لم يعُد لديه بديل آخر سوى الرحيل، وأن ثمن البقاء في السلطة ليوم آخر سيكون مكلفا جدا... ------------------------------------------------------------------------ خروج مشرف من سدة الحكم.. إجبار أم اختيار ؟ ------------------------------------------------------------------------ أجمع المحللون السياسيون أن حالة خروج مشرف من السلطة تحمل نمطا يستحِق الانتباه، فقد أقدَمت الحكومة الائتلافية على القيام بإجراءٍ لعزله من الرئاسة، وكادت أن تفعل ذلك في سابقة لم تحدث في باكستان، لكن الدولة التي تأسست في الأربعينات من القرن إثر انفصالها الدرامي عن الهند لم تشهد من قبل، على أي حال، خروجا هادئا لمُعظم القادة الذين تولّوا حكمها، فقد كانت السلطة تنتقِل من حاكم لآخر عبر عمليات إقالة أو انقلاب أو قتل، وكاد برويز مشرّف ذاته أن يفقِد حياته عدّة مرات خلال محاولات اغتيال مُحكمة تعرّض لها. بدأت مرحلة بداية نهاية فترة حكم مشرف منذ مارس ,2007 عندما أقال رئيس المحكمة العليا، بما أثار ضده موجة احتجاجات غير مُسيطر عليها، أدّت إلى مواجهة مع المحكمة العُليا التي رفضت قراره، ثم وجّهت إليه ضربة مضادّة برفض اعتماد فوزه بالرئاسة في أكتوبر من نفس العام، علما ان صدامه مع القضاة أدخلته في صدام أيضا مع فئة مدنية، لان فئة القضاة في باكستان لديها قاعدة تأييد واسعة ، اعتادت على أن يتم التعامل معها بنوع من التوقير أو تأييد الرأي العام لها، على نحو أثَّر بالفعل على شعبية مُشرّف بشدّة . ما جرى بعد ذلك، كان يمثِّل انهيارا لا مفرّ منه لسلطة الرئيس، الذي بدأ يتعرّض لضربات متلاحقة، كاضطراره للتخلي عن قيادة الجيش، الذي كان يمثل أهمّ عناصر قوته، قبل أن يؤدّي اليمين الدستورية كرئيس للبلاد، ثم فوز التحالف المعارض له بأغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات فيفري ,2008 في نفس الوقت، كانت باكستان ذاتها تتعرّض إلى مشكلة حقيقية تُثير احتمالات فوضى أمنية خطرة. فعناصر طالبان تشُنّ هجمات داخل البلاد، وتم اغتيال بي نظير بوتو بصورة مُفزعة ، كما بدأت بعض المناطق الحدودية في الخروج عن نطاق السَّيطرة، مع وجود قلق خارجي بشأن أمن الأسلحة النووية، ممّا أدّى إلى تعرّض مُشرف إلى ضغوط كبيرة للتخلي عن السلطة طوال الوقت. ------------------------------------------------------------------------ كيف انهار العقد الوثيق بين مشرف وأمريكا ؟ ------------------------------------------------------------------------ لم يقبل الغرب وصول مشرف إلى سدة الحكم في انقلاب عسكري عام 1999 ، إلا أنه بعد أن وقعت هجمات 11 سبتمبر 2001 ، تغيرت الأمور تماما ، فقد وجد مشرف في التحالف مع واشنطن في الحرب ضد الإرهاب فرصة للاستقواء على الداخل بعد تصاعد المعارضة لجمعه بين الرئاسة ومنصب رئاسة الجيش . ومن جانبها ، لم تفوت واشنطن هي الأخرى الفرصة للاعتماد على حليف لا بد منه للقضاء على خطر حركة طالبان وما يسمى تنظيم القاعدة بالنظر إلى الدعم الواسع الذي كانت تقدمه باكستان لطالبان قبل أحداث سبتمبر ، وخطت واشنطن خطوات كبيرة لكسب ود نظام مشرف حيث منحت باكستان نحو عشرة بلايين دولار منذ 2001 ، وأسهمت وساطة واشنطن في تخفيض الدين الباكستاني وأفضى انخفاض الدين الباكستاني إلى نمو اقتصادي فاق ال5 في المائة في الأعوام الأربعة التي تلت هجمات سبتمبر، كما أسهمت واشنطن في تخفيف التوتر الدائم بين الهند وباكستان بشأن قضية كشمير. ورغم ما سبق إلا أنه بعد مرور 7 سنوات على بدء التحالف الباكستاني - الأمريكي ضد ما تسميه واشنطن ب''الإرهاب''، نشبت الخلافات بين حلفاء الأمس وتوالت اتهامات البيت الأبيض حول أن مصدر ''الإرهاب'' في أفغانستان يأتي عبر القبائل الباكستانية المتاخمة للحدود الأفغانية ، بل وظهرت أيضا تهديدات بالتدخل العسكري في منطقة القبائل، وكان المتحدث باسم البيت الأبيض تونى سنو قد أعلن في 20 جويلية2007 أنه في الوقت الذي تعترف فيه الولاياتالمتحدة بالسيادة الباكستانية فإن إدارة الرئيس بوش طالما احتفظت لنفسها بحق ضرب الأهداف التي تراها ضرورية. وفي 22 جويلية 2007 ، كشفت صحيفة ''الديلي تليغراف '' البريطانية أن تقريرا سريا للاستخبارات الأمريكية ألقى اللوم في وجود زعيم ما يسمى تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في المناطق القبلية الباكستانية على برويز مشرف ، كما ذكرت صحيفة ''فايننشيال تايمز'' البريطانية أن الولاياتالمتحدةالأمريكية عادت إلى ''حالة الطوارئ القصوى'' والسبب في ذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى إيجاد القاعدة ملاذ آمن في باكستان لإعادة بناء قيادتها، ويرى البعض أن تهديدات واشنطن بضرب مناطق القبائل كانت تهدف لتعميق الفجوة بين مشرف وشعبه تمهيدا للإطاحة به، حيث أن استمراره بات يشكل تهديدا لمصالحها . ------------------------------------------------------------------------ ما بعد مشرف.. استمرار لفصول الأزمة في باكستان ------------------------------------------------------------------------ بعد أقل أسبوع من استقالة برويز مشرف ، أعلن رئيس الوزراء الباكستاني الأسبق نواز شريف أن حزب الرابطة الذي يتزعمه قرر الانسحاب من الائتلاف الحاكم بسبب خلافات بشأن إعادة تعيين 60 قاضيا أقالهم مشرف في نوفمبر 2007 ، قائلا :'' اتخذنا هذا القرار بعد أن فقدنا الأمل إذ لم يتم الإيفاء بأي من الالتزامات التي قطعها لنا آصف علي زرداري زعيم حزب الشعب الباكستاني الشريك في الائتلاف، لقد أجبرنا الوضع على سحب دعمنا والجلوس على مقاعد المعارضة في البرلمان''.، هذا التطور لم يكن مفاجئا للمتابعين للشأن الباكستاني، لأن التحالف لم يكن متماسكا منذ البداية ، حيث أن الهدف الوحيد الذي كان يجمع مكوناته هو الإطاحة بمشرف ، أما عدا ذلك فإن الخلاف هو سيد الموقف ، فمعروف تاريخيا أن حزب الشعب هو المنافس التقليدي لحزب الرابطة الإسلامية ، كما أن الأخير يملك توجها إسلاميا ويتمتع بعلاقات جيدة مع الجماعات الإسلامية وحركة طالبان ، فيما يدافع حزب الشعب بقوة عن العلمانية ويتخذ موقفا متشددا من الإسلاميين. أيضا من أولويات شريف إعادة الكرامة للقضاء والقطيعة تماما مع إرث مشرف ، فيما يحرص حزب الشعب على التمسك ببعض سياسات هذا الإرث من خلال دعم التحالف مع أمريكا في مواجهة مقاتلي طالبان والقاعدة ، بالإضافة للسعي لعرقلة إعادة القضاة وعلى رأسهم رئيس المحكمة العليا السابق افتخار شودري ، الذي يعرف عنه التشدد في قضايا الفساد والرشوة وكان يتوقع في حال عودته أن يفتح ملفات فساد زرداري التي كانت قد أغلقت في أواخر 2007 بموجب صفقة سياسية بين رئيسة الوزراء الراحلة بنظير بوتو والرئيس السابق برويز مشرف ، قام خلالها الأخير بإسقاط اتهامات الفساد الموجهة ضد بوتو وزوجها زرداري ، مقابل دعم بوتو لمشرف في الانتخابات الرئاسية. ------------------------------------------------------------------------ زرداري ونواز شريف .. صراع سيطول ------------------------------------------------------------------------ وفيما يبدو فإن انسحاب شريف لم يأت فقط على خلفية نكوص زرداري لتعهداته بشأن إعادة القضاة المعزولين مباشرة بعد استقالة مشرف ، وإنما لأنه لا يرغب في تولي زعيم حزب الشعب رئاسة البلاد ، وهذا ما تأكد بالفعل عندما قرر الانسحاب بعد يوم واحد فقط من إعلان حزب الشعب في 24 أوت اختياره زرداري مرشحا له بانتخابات الرئاسة التي ستجرى في 6 سبتمبر. شريف ينطلق في موقفه من حقيقة مفادها أن وصول زرداري لكرسي الرئاسة بنفس الصلاحيات الواسعة التي كان يمتلكها مشرف وهى حل البرلمان والحكومة يعني البعد تماما عن قواعد الديمقراطية وانفراد حزب الشعب بالسلطة ، وبالتالي استمرار نفس نمط النظام السابق، وتأكدت شكوكه في هذا الصدد أكثر وأكثر عندما طالب بتعديلات دستورية حول تقليص صلاحيات الرئيس ، ورفضها حزب الشعب . وهناك من رجح أيضا أن شريف يسعى بقوة للعودة لرئاسة الحكومة ، وفوز زرداري بالرئاسة من شأنه أن يقضي على هذا الحلم ويضمن استمرار حزب الشعب على رأس الحكومة والرئاسة ، ولذا أصر على التعديلات الدستورية ، كما عارض بقوة أن يكون الرئيس من الحزب الحاكم . ------------------------------------------------------------------------ سيناريوهات ما بعد الانسحاب.. من الائتلاف الحاكم ------------------------------------------------------------------------ رغم أن انسحابه من الائتلاف الحاكم لن يؤدي في الغالب لإجراء انتخابات مبكرة بالنظر للأغلبية التي يتمتع بها حزب الشعب في البرلمان ، إلا أنه يراهن على فشل الحكومة التي يقودها الحزب في الخروج من دوامة الأزمات التي تمر بها باكستان في فترة ما بعد مشرف ومن أبرزها مسألة القضاة المعزولين ، وأزمة الرئاسة ، والوضع الأمني والاقتصادي الذي يشهد تدهورا يوما بعد يوم.، كما أنه حتى وإن فاز زرداري بالرئاسة ، فإن هذا لا يعني أن الأمور ستستقر له طويلا لعدة أسباب من أبرزها أن حزب الرابطة سيعرقل عمله بعد أن انتقل لصفوف المعارضة، كما أن الجيش لا يدعمه بالنظر لاتهامات الفساد التي كانت تلاحقه في السابق ، هذا بالإضافة إلى أنه لم يسبق له أن خاض انتخابات، ويفتقر إلى التجربة في الحكم، ويعتمد في تسيير الحكومة الحالية على خبرة رئيس الوزراء يوسف رضا جيلاني ، كما أنه يواجه بمعارضة قوية من قبل الإسلاميين لأنه بنظرهم أداة بيد واشنطن. وهناك من رجح احتمال تراجع زرداري عن الترشيح في آخر لحظة إذا قرر رئيس أركان الجيش اشفاق كياني، ذي النفوذ الواسع ، خوض انتخابات الرئاسة ، كما أشار البعض إلى احتمال قيام العسكر بانقلاب جديد إذا فشلت حكومة حزب الشعب على غرار ما حدث في عامي 1988 و1996 ، عندما أطاح الجيش بحكومتي الحزب ، أو احتمال عقد صفقة جديدة بين شريف وزرداري لاقتسام السلطة بينهما وحل قضية القضاة بما يضمن عدم فتح ملفات الفساد في عهد مشرف. ------------------------------------------------------------------------ تقارير غربية تكشف ... عمل عسكري أمريكي في الأفق ------------------------------------------------------------------------ أمريكا بالطبع لم تكن لترضى عن التطورات في باكستان ، ولذا ظهرت تقارير صحفية تحذر من أنها بدأت تفكر جديا في تنفيذ تهديداتها بشن عملية عسكرية واسعة في منطقة القبائل لمنع ''طالبان باكستان '' من السيطرة على السلاح النووي إذا استمرت الفوضى في البلاد. ففي 23 أوت 2008، كشفت صحيفة ''لوس أنجلوس تايمز'' الأمريكية أن إدارة بوش تخطط لعمل عسكري في منطقة القبائل يغطي على إخفاقاتها في العراق وأفغانستان وعجزها أمام إيران ويرفع أسهم الجمهوريين في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة. صحيفة ''نيويورك تايمز'' أشارت هي الأخرى لحالة القلق التي يعانيها المسؤولون الأمريكيون على خلفية الأزمة المتصاعدة في باكستان وتنامي قوة عناصر طالبان ، موضحة أن واشنطن بعثت خلال الأيام الأخيرة برسائل تهديد واضحة للحكومة والجيش في باكستان بأنه يجب على إسلام آباد المساعدة في محاربة الإرهاب ، وإلا فإنها ستواجه بهجمات أمريكية داخل أراضيها. وأضافت أن أروقة البيت الأبيض استضافت اجتماعا غير معلن شارك فيه نائب الرئيس الأمريكى ديك تشيني ووزيرة الخارجية كونداليزا رايس وكبار مستشاري الأمن القومي وذلك لمناقشة كيفية قيام المخابرات المركزية الأمريكية والجيش بهجمات ضد طالبان في منطقة القبائل ، صحيفة ''هيرالد تريبيون'' كشفت أيضا أن الولاياتالمتحدة أعلنت حالة التأهب القصوى للاستيلاء على الترسانة النووية الباكستانية أو تدميرها في حال وصول إسلاميين للحكم ، مشيرة إلى أن قوات خاصة وعلماء تابعون للهيئة الأمريكية للأبحاث النووية ينتظرون الأوامر من الجهات المسئولة للاستيلاء على نحو 60 رأسا نوويا منتشرة في قواعد عسكرية باكستانية يتراوح عددها ما بين 6 و10 قواعد، وأخيرا وفي مقال له بصحيفة ''هافينجتون بوست'' ، قال جوزيف سيرينسيون نائب رئيس قسم الأمن القومي والسياسة الدولية بمركز ''التقدم الأمريكي'' ''التهديد لواشنطن لا يأتي من العراق ولا إيران، بل من باكستان، فمع حكم غير مستقر ومواد كافية لصنع من 50 إلى 100 قنبلة نووية، إضافة إلى تأثير قوي للمتشددين الإسلاميين ، فإن باكستان هي أخطر دولة على كوكب الأرض بالنسبة للولايات المتحدة ''. واستطرد يقول :'' الأسلحة النووية الباكستانية يعتقد أنها في مأمن لكن عدم الاستقرار المتزايد في هذا البلد قد يؤدي إلى انقسام الجيش أو يشتت الوحدات العسكرية التي تحرس المواد النووية لتفتح بذلك المجال أمام سيطرة الإسلاميين''.