لقد أصبحت الطرق البديلة لحل النزاعات تشكل لدى المعنيين بقطاعي العدالة والقانون اهتماما متزايدا، لاسيما بعد تكريس الكتاب الخامس من قانون الإجراءات المدنية والإدارية لتنظيم ثلاث طرق بديلة: الصلح، الوساطة، والتحكيم. في الحقيقة، لا تنحصر الطرق البديلة في حل النزاعات المدنية والإدارية فقط بل تتعلق كذلك بالمادة الجزائية. يمكن العثور في المنظومة القانونية الراهنة على أمثلة متعددة للطرق البديلة للدعوى العمومية مثل: 1- تكريس المصالحة: أخذ قانون الإجراءات الجزائية منذ 1966 بالمصالحة كسبب لانقضاء الدعوى العمومية “إذا كان القانون يجيزها صراحة” قبل منعها بموجب الأمر 75/46 لمدة 11 سنة، ثم الأخذ بها من جديد بموجب القانون 86/05 الساري المفعول إلى يومنا هذا. تنص المادة 6/4 من ق.إ.ج على ما يلي: “كما يجوز أن تنقضي الدعوى العمومية بالمصالحة إذا كان القانون يجيزها صراحة”. أخذ قانون الجمارك الصادر بتاريخ 21/07/1999 بالمصالحة تحت تسمية التسوية الإدارية في الفترة التي كان فيها قانون الإجراءات الجزائية يمنع انقضاء الدعوى العمومية بالمصالحة، ثم جاءت المادة 265 فقرة 8 من القانون 98/ 10 المعدل لقانون الجمارك لتكرس لحد الآن مبدأ انقضاء الدعويين العمومية والجبائية بالمصالحة. وينبغي التنبيه إلى عدم جواز التصالح بخصوص أعمال التهريب عملا بالمادة 21 من القانون 05 - 06. كرست المادة التاسعة مكرر من الأمر 96/22 المتعلق بقمع مخالفة التشريع والتنظيم الخاصين بالصرف وحركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج انقضاء الدعوى العمومية بالمصالحة، وكان هذا الأمر يمنع النيابة العامة من تحريم الدعوى العمومية إلا بعد حصولها على إذن مكتوب من قِبل الوزير المختص.. 2- تكريس غرامة الصلح: تنص المادة 381 من ق.إ.ج على أنه: “قبل كل تكليف بالحضور أمام المحكمة يقوم عضو النيابة العامة المحال عليه في محضر المخالفة بإخطار المخالف بأنه مصرح له بدفع مبلغ على سبيل غرامة صلح مسا للحد الأدنى المنصوص عليه قانونا لعقوبة المخالفة”، كما تنص المادة 389 على أنه “تنقضي الدعوى العمومية بقيام المخالف بدفع مقدار غرامة الصلح”. 3- تكريس الغرامة الجزافية: تنص المادة 392 /1 من ق.إ.ج، “يمكن أن تنقضي الدعوى العمومية الناشئة عن مخالفة، في المواد المنصوص عليها بصفة خاصة في القانون،بدفع غرامة جزافية داخلة في قاعدة العود”. ويمكن إضافة إلى كل هذا، إحصاء مجموعة أخرى من النصوص القانونية التي تسعى إلى الحد من ظاهرة العقاب الجزائي بشكل عام، مثل: - اشتراط تقديم شكوى لصحة قيام بعض المتابعات الجزائية: يعتبر صفح الضحية وتنازلها عن الشكوى سببا لوضع حد للمتابعة الجزائية في جرائم الزنا والنصب وخيانة الأمانة الواقعة بين الأقارب والأصهار وفي جريمتي الإهمال العائلي وعدم تسديد النفقة. - اعتبار تنازل الضحية عن الشكوى وصفحها سببا لانقضاء الدعوى العمومية في بعض الجرائم: يشترط تقديم شكوى لقيام المتابعات الجزائية الخاصة بالجرائم السالفة الذكر المنوه والمعاقب عليها بموجب قانون العقوبات. - إعفاء بعض المجرمين من العقاب حفاظا على الروابط الأسرية: إعفاء الأقارب من العقاب في جريمة عدم الإبلاغ عن المجرمين وفي السرقات المرتكبة من الأصول إضرارا بالفروع ومن الفروع إضرارا بالأصول أو من أحد الزوجين إضرارا بالزوج الآخر. - إلغاء بعض العقوبات: مثل إلغاء عقوبة الإعدام بالنسبة لجرائم الأموال. - إمكان القاضي الجزائي تسليط عقوبة حبس جزء منها نافذ وآخر غير نافذ. - إمكان استبدال عقوبة الحبس بنظام العمل من أجل النفع العام. ليست هذه الأمثلة هي الطرق الوحيدة المكرسة للحد من العقاب الجزائي. لقد اهتم المشرع بتطوير نوع آخر من العقاب تختص بتوقيعه سلطات إدارية مستقلة كل واحدة منها في مجال القطاع المكلفة بضبطه. تم إنشاء ما يقارب 20 سلطة إدارية مستقلة لحد الآن منذ صدور القانون 90-07 الذي أنشأ المجلس الأعلى للإعلام كأول سلطة إدارية من هذا النوع. يحتل مجلس المنافسة في هذا الإطار أهمية خاصة، لأنه يتمتع باختصاص يوصف بأنه أفقي يسمح له بمعاقبة جميع التصرفات المخالفة للمنافسة المشروعة في أي قطاع كان. لقد منح المشرع سلطة العقاب لجميع السلطات الإدارية المستقلة، من أجل تمكينها من أداء مهامها الضبطية المتنوعة من تنظيم ورقابة وتحكيم وغيرها. . هذا التوجه أدى إلى ظهور فئة جديدة من القواعد القانونية يمكن تسميتها بقانون العقوبات الإداري أو القانون الإداري الجنائي أو قانون العقوبات الإدارية، وغيرها من التسميات الملائمة. يمكن القول مبدئيا بأن العقاب الإداري أصبح يمثل طريقا بديلا للدعوى القضائية بوجه عام وللدعوى الجزائية بوجه خاص، لأن السلطات الإدارية المستقلة أصبحت تمارس صلاحيات هي في الأصل من مهام القضاء المختص بتوقيع الجزاء المدني والجنائي على مخالفة قواعد القانون والتنظيم. أصبحت العقوبات الإدارية في بعض الدول تشكل تقنينات مستقلة تسمح للسلطات الإدارية بمنافسة القضاء في توقيع الجزاء دون اعتبار أن هذا التنافس مساس بمبدأ الفصل بين السلطات. ويرجع سر ازدهار قانون العقوبات الإداري إلى كونه يعبر في حقيقة الأمر عن فكرتين أساسيتين متكاملتين تحاول المنظومات القانونية المقارنة تجسيدهما: فكرة التخلي تدريجيا عن حتمية اللجوء إلى القضاء لفض بعض النزاعات، وفكرة الحد من احتكار القاضي الجزائي توقيع العقاب. أهمية العقاب الإداري في الجزائر كطريق بديل للدعوى الجزائية لا تزال في الواقع متواضعة جدا. لكن سوف تزداد مستقبلا من غير شك، نظرا للمنافع الكثيرة التي تترتب على توسيع الأخذ بنظام العقوبات الإدارية. لقد أصبحت الكفاءات الوطنية في كثير من القطاعات– عمومية وخاصة- مكبلة الأيادي، لا تبادر ولا تجتهد تخوفا من وقوعها في فخ التجريم الموروث من مرحلة التجربة الاشتراكية التي كان فيها القانون بقمع بصرامة من أجل حماية المكتسبات الاشتراكية. هذا الأمر أدى إلى تضخم المنظومة القانونية العقابية بشكل مبالغ فيه يتعارض مع انفتاح الجزائر على اقتصاد السوق. إن الانفتاح على اقتصاد السوق يتنافى مع استمرار العمل بالنظام العقابي الموروث عن مرحلة الاقتصاد المسير الذي يتسم بأنه كثير التجريم في المجال الاقتصادي وغيره، تماشيا مع مبادئ الاشتراكية التي كانت تفرض تدخل السلطات العمومية في تنظيم تسيير وتوجيه المؤسسات العمومية الاقتصادية على جميع المستويات إنتاجا توزيعا وخدمات. إن العقاب الإداري يتلاءم أكثر مع خصوصيات الاقتصاد الحر الذي يقتضي التقليل من ظاهرة الردع الجزائي في مجال المعاملات الاقتصادية والصحافة المكتوبة، عكس ما كان يتميز به نمط الاقتصاد المسير. على هذا الأساس، فإن المشرّع مطالب اليوم بنزع الوصف الجزائي عن صنف المخالفات وصنف الجنح البسيطة، لأن العقوبات الجزائية المقررة لها لم تعد تحقق مسعاها، بقدر ما أنها أصبحت تشكل عبئا ثقيلا على الجهات القضائية التي صارت تئن بفعل العدد الخيالي لملفات المتابعات، في حين من المفروض أن يكتفي القاضي الجزائي بالاعتناء أساسا بالفصل في الجرائم التي تشكل خطرا جسيما على المجتمع. لقد أصبح عقاب المخالفات والجنح البسيطة غير مجد باعتراف من وزير العدل السابق عند قوله بأن الدراسات المتعلقة بتطبيق عقوبات الحبس قصيرة المدة بينت “ فشل.. فعالياتها في ردع المحكوم عليهم وفي حماية المجتمع، فضلا عن عدم مسايرتها للسياسة العقابية الجديدة” (إصلاح العدالة في الجزائر ص 100). إن نزع الوصف الجزائي لا يعني بالضرورة بأن الأفعال المنزوعة الوصف الجزائي تصبح بالضرورة مباحة، بل يمكن استبدال العقاب الجزائي بأنواع أخرى من الجزاء كالعقاب الإداري والعقاب التأديبي، بشرط أن لا تقل هذه الطرق البديلة ضمانات عن تلك التي توفرها المحاكمة الجزائية.