استضافت جمعية الجاحظية في إطار نشاطها الثقافي الأسبوعي، الدكتور عثمان بدري، الذي ألقى محاضرة بعنوان ''مؤشرات التغيير الجذري في الخطاب العربي المعاصر، حاول من خلالها استقراء النبوءات من خلال النصوص الأدبية المعاصرة في كل من الشعر والرواية، بدءا من الشابي وبدر شاكر السياب إلى توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. استعرض الدكتور عثمان بدري أهمية الأدب وقدرته على اختراق الأزمنة، حيث يستطيع أن يعمر العصور المتتالية ويؤثثها بخطابه، كما يفعل شعر المتنبي الذي ما يزال يواصل حضوره مع الأزمنة العربية المتتالية. الأدب العربي المعاصر يتخلى فيما يحدث في العالم منذ 1980 إلى الآن، وهذا ليس بالمفاجئ ولا هو وليد التغيرات الظرفية. وأشار المحاضر إلى أن الجيل الأول من الأدباء هو الذي أسس للمشروع العربي الحديث وحدّس ما فيه، بالرغم من إعادة تحيين، فقد تجاوز الخطاب التبريري الذي تعودنا عليه في سلطة الخطاب الأحادي الآمر، مما أدى إلى خيبة أداء مردوده في النخب سواء تلك التي تبنت خطاب السلطة ولمعته، أو تلك الممانعة بسلطة الثقافة. وأكد الأستاذ بدري بغياب التغيرات في فضاء المجتمعات العربية والإسلامية إذا ما استثنينا منها ثورة العصر الحديث الثورة الجزائرية سنة 1954م، هذه التغيرات لم تحصل في المجتمع لتجعله في الوثبة الخلاقة، وسبب هذا التعطيل والركود أرجعه الأستاذ بدري إلى غياب العدل باعتباره أساس الملك. ويرى الأستاذ بدري أن ذاكرة الأدب والفنون الأخرى تتغذى من الوتيرة المركبة من الإنسانية المتحركة، وأن الأدب لا يقول الواقع الخارجي وإنما هو إعادة اكتشاف لهذا الواقع، وبهذا المعنى يبدأ الأدب ليكون مأوى نبوءات متصلة للتغير والتغيير والتغاير المستمدة من ذاكرة الحياة التي هي في المدن الكبرى، حيث صار التغيير أوسع يشمل الحاكمين والمحكومين، ولعل أبرز الأعمال التي عبرت عن مؤشرات التغيير الجذري بدر شاكر السياب في قصيدته ''أنشودة المطر''، التي أشارت إلى قابلية حدوث شيء ''وأصبح بالخليج... يا خليج.. ياموهب الدور والمحار والردى.. فيرد الصدى مطر... مطر.. مطر'' حيث يجعل القصيدة طوفانا، هذه القصيدة تتكون من تسعة مشاهد كبرى تشمل الهدم والتدمير والبناء في آن واحد، والرمز هنا يشمل كل الناس والذي من أهدافه الاغتسال والتطهير. ويضيف المحاضر أن الشاعر المغاربي أبو القاسم الشابي في كل أشعاره تنبوءات، وفي قصيدته ''النبي المجهول'' التي جاء في بعض منها: ''أيها الشعب ليتني كنت حطابا... فأهوى على الجذوع بفأسي! ليتني كنت كالسيول إذا ماسالت.. تهدّ القبور: رمسا برمس! ليت لي قوة العواصف يا شعبي.. فألقي إليك ثورة نفسي! أنت في الكون قوة كبلتها... ظلمات العصور من أمس أمس'' وكان في هذه القصيدة يحث على الثورة ويفتح لها الأبواب المستقبلية الواعدة، رمز بالنبي المجهول، حيث وظف من خلاله الموروث الديني للتغيير، لأن الأنبياء هم من يغيرون المجتمعات ويأتون بالفتوحات الجديدة، ومن هنا نجد الشاعر يمارس ثورة عارمة، وهذه القصيدة احتوت ما حدث ووقع في تونس حيث كانت قصيدته إرادة الحياة شعارا للثورة السلمية التي قام بها الشعب التونسي. واستعرض الدكتور عثمان بدري في مداخلته، دور الخطاب الروائي من عالم المدن الكبرى فإذا كان الشعر يعبر عن ذاتية الشاعر فإن الخطاب الروائى حي في عالم المدن بتناقضاتها بهوامشها، بخيرها وشرها، وهذا ما نجده في عودة الروح'' للكاتب الكبير توفيق الحكيم الذي جعل من الثورة إمكانية مستقبلية، حيث شعر بموت هذه الروح، إلا أنه لم ييأس، فعودة الروح ربما استقاها من فلسفة البعث الفرعونية وفي عودة الروح يؤكد توفيق الحكيم على التغيير الجذري، والذين جاءوا من بعده نجيب محفوظ وعلي عبد الرزاق في كتابه ''الاسلام وأصول الحكم''. نجيب محفوظ في بدايته كتب في المجال التاريخي'' كفاح طيبة'' و''لاروديس''، كان يستخدم الماضي ليعبر عن مناهضة الحاضر الاستعماري الانجليزي لمصر، وبعد ذلك إتجه للكتابة على المجتمع في مدينة القاهرة ''القاهرةالجديدة أو القاهرة في الثلاثين'' و''خان الخليلي'' و''السراب'' ورواية ''اللص والكلاب'' ورائعته الثلاثية ''السكرية بين القصرين وقصر الشوق''، وأهم وظيفة يقول المحاضر ركزت عليها روايات نجيب محفوظ التغير من الأسفل إلى الأعلى ثم السقوط، وهذا تغير فردي هو الذي يؤدي إلى السقوط ولهذا لابد من تغيير اجتماعي ثوري، فالبطل الواحد، كما نجده في القاهرةالجديدة، رغم الانجازات التي حققها والتي لم تبن على أسس سليمة، تعود به إلى نقطة البداية أي أنه لم يتغير، وكذا زقاق المدق لأن الشخصية المسحوقة هي بين طبقات الشعب، الطبقة الوسطى، وبين الأستقراطية التي تمثل الجلاد الأكبر، ويخلص الدكتور عثمان بدري في تحليله لشخصيات نجيب محفوظ بالقول ليس هناك تغير وإنما هناك مفارقة للتغير، وهذا يعود ''لغياب العدالة''، لأن العدل عند نجيد محفوظ هو المبحوث عنه، لأن العدل مغيب والسلطان هو المسؤول عن هذا الغياب.