''مرحبا بكم في ولاية الجزائر''، عبارة لاحظتها من بعيد مكتوبة بالبند العريض وأنا شبه نائمة حين أخبرني زميلي الصحفي بأننا قد دخلنا العاصمة بعد رحلة شاقة دامت أكثر من أسبوع، لم أصدق نفسي بأنني قد وصلت، بعد الذي رأيته وعشته وسط أناس قهرهم الفقر والتهميش إلى درجة أنهم فقدوا كل شيء يربطهم بهذا المجتمع الذي يبدو غريبا عنهم، لا حياة ولا هم يحزنون، هم سكان ''أين غزال''، المنطقة التي تبعد بحوالي 15 كيلومترا عن الحدود المالية، وهناك قضيت بضعة أيام كدت أفقد فيها صوابي رفقة أعوان الحماية المدنية، بسبب معاناة هؤلاء المواطنون الذين لا حول ولا قوة لهم، وخلال تلك الرحلة رحت أكتشف الحياة الضائعة لمواطنين جزائريين لكن الفقر المدقع أنساهم بأنهم مواطنون جزائريون ينتمون لبلد مستقل اسمه الجزائر، قد يبدو لكم غريبا ما أقول لكن الحقيقة التي وقفت عندها تؤكد صحة أقوالي وستكتشفون في الروبورتاج مدى معاناة شعب يبدو في نظري بأنه فارق الحياة منذ أمد بعيد... وبعد رحلة شاقة وصلنا إلى ''أين غزال'' في حدود الساعة الواحدة زوالا، التابعة لمنطقة برج باجي مختار، هذه المنطقة التي لا نسمع عنها إلا عند حلول شهر رمضان كل سنة، حين يقوم المنشط ببث أوقات الإفطار والإمساك عبر التلفزيون الجزائري، ورحت حينها أسترق النظر من نافذة السيارة التي كانت تقلنا من نوع ''نيسان''، وكنت حينها مرهقة جدا، في رحلة الصيف، نمت خلالها واستيقظت عدة مرات، وفي كل مرة كنت أستيقظ فيها أسأل من كانوا يجلسون بجنبي إن كنا قد وصلنا أم لا، فلم أصادف أي شخص فالحياة شبه منعدمة وما كان يلفت انتباهي سوى جثث بعض الحيوانات المترامية هنا وهناك على حواف الطريق، التي نال منها الجفاف واحترقت بأشعة الشمس، وفجأة توقفت السيارة لألحظ طفلا صغيرا يركض باتجاهنا حافي القدمين، الذي نزل من أعلى كثب رملي، اندهشت لمنظره فكان يرتدي لباسا رثا قد أكل عليه الدهر وشرب، وبشرته تكسوها طبقات فوق أخرى من الوسخ فيبدو عليه بأنه لم يغتسل منذ أعوام، وحتى ملامح وجهه بدت لي غريبة التي تغيرت بفعل الطبيعة القاسية والفقر المدقع، إلى درجة أنه فقد ملامحه البريئة، اسمه ''محمد''، لا يتحدث العربية أو بالأحرى ''الدارجة''، لا يعرف شيئا اسمه ''مدرسة'' أو ''معلم''، ولكم أن تتخيلوا ذلك المشهد في يوم اشتدت فيه درجة الحرارة وتحول لون السماء إلى الأصفر، حاولت الحديث معه لكنني فشلت في فهمه والآخر راح يعبر لي بإيماءات بأنه لا يفهم شيئا مما أقوله، لأنه يتحدث باللهجة التارڤية، في تلك اللحظات الهاربة أدركت جيدا بأن هناك فعلا أشخاصا لا يعرفون عن الحياة شيئا سوى الأكل والشرب والإستيقاظ حين تطلع الشمس والخلود إلى النوم لما تغرب، أميون خلقوا أميين ليموتوا ويدفنوا في يوم من الأيام أميين، فلا وجود لمسجد ولا لمدرسة ولا لمحل تجاري سوى بعض الأقمشة الرثة التي صنعوا منها مأوى يأويهم من حرارة الصيف وبرودة الشتاء، تشبه الخيم لكنها ليست في الحقيقة خيما، لكنني ورغم ذلك لم أصرف النظر عن محمد ذلك الصبي أسمر البشرة، ليتدخل حينها أحد سكان المنطقة الذي يجيد الحديث بالعربية مجيبا عن بعض أسئلتنا ''محمد يعيش رفقة عائلته المتكونة من 7 أفراد وراء كثبان الرمال، لا يعرف معنى المدرسة لم يدخل يوما إليها''، تركت محمد من ورائي فركبت السيارة في رحلة البحث عن بقية العائلات التي تعيش هي الأخرى مختفية وراء الكثبان، فأول مشهد صادفنا هو تلك العائلة التي كانت تجتهد في الإختباء تحت قطعة من قماش علّها تقي نفسها من أشعة الشمس الحارقة التي اخترقت أجسادهم النحيفة، توقفت السيارة مرة ثانية ومن دون أن أشعر وجدت نفسي أقترب منهم، رغم أنني كنت جد متخوفة من أن أصاب بضربة شمس، فقلت في نفسي هل قطعة القماش التي يحتمون تحتها هي منزلهم كما نملك نحن منزلا يقينا حرارة الصيف وبرودة الشتاء، فحتى مساحة الظل التي كان يحتمي تحتها هؤلاء لم تتجاوز المترين، وهم يجلسون متراصين جنبا إلى جنب، حالهم حال من يركب حافلة لنقل المسافرين بحي شعبي، وفي دردشة خفيفة جمعتني برقية التي أخبرتني ''في الصيف رحمة ربي''، لأنه بمجرد غروب الشمس يخرج الجميع من مأواهم، غير أنهم وبمجرد حلول فصل الشتاء، تبدأ معاناتهم حين يحلم كل واحد منهم بنوم عميق يمدد فيه أرجله من دون أن تلامس غيره، لأنه لا تفرقة في المضاجع، فالكل ينام في مكان واحد.. وكان من بين هؤلاء ثلاث نسوة ولهن أطفال، وبمجرد أن اقتربنا منهم، دعونا للجلوس معهن لكن لسوء حظي لم أفهم كلمة مما كن يقلنه، بسبب تحدثهن باللهجة التارڤية، لم أفقد الأمل رحت أجمع وأفكك في آن واحد بعض العبارات لعلي أفهم ما كن ينوين قوله لي، حتى تدخل طفل في العاشرة من عمره، الذي راح ينقذ الموقف، واسمه ''مولاي''، قائلا''ما يعرفوش يهدرو معاك بصح أنا نفهمك''، حين راح يترجم لي حديث تلك النسوة، فأدركت حينها بأن لا غذاء لهم سوى أكل الخبز وشرب الحليب، لتخبرني الحاجة ''باكة'' التي يبدو عليها أنها قد تجاوزت العقد الخامس بأن الجفاف قد ضرب المنطقة ومنذ سنتين لم يسقط المطر بها، مما تسبب في هلاك ماشيتهم... اندهشت فعلا لما رأيته، فرحت أتمتم بيني وبين نفسي فهل يعقل أن يوجد أناس يسكنون القصور ويركبون السيارات الفخمة ويدرسون أبناءهم بالخارج في وقت يوجد فيه أناس لا تربطهم أية علاقة بشيء اسمه الحياة سوى انتظار قضاء الله و قدره... الموت في أية لحظة... و كل ما رأيته دفعني لمواصلة الرحلة التي أقل ما يقال عنها بأنها شاقة فعلا، بحثا عن بقية العائلات. لا تندهشوا... أمهات في سن الثانية عشر.. و''البايرة'' من بلغت سن 15 كان الجميع يعيش نفس الظروف، فحتى طريقة لباسهم متشابهة إلى درجة أنك تعجز عن التفريق بين رجل وآخر وامرأة وأخرى، فتجد النسوة يرتدين قطعا من القماش تكاد تغطي جزءا بسيطا من عوراتهن، في حين لا تكاد تكتشف ملامح الرجال، لكن الشيء الذي أثار فضولنا هو زواج الفتيات في سن جد مبكرة، وعليه فإن بلغت الفتاة سن الخامس عشر ولم تتزوج فإنها ستدخل مباشرة في صف ''العوانس'' أو ما يطلق عليهن باللهجة العامية ''البايرات''، في المنطقة و هو ما أخبرتني به الحاجة ''باكة'' بأنه تقليد في منطقتهم، وعلى جميع الفتيات الأخذ به واتباعه، فعندهم تصبح الفتاة صالحة للزواج في سن الثامنة، غير أن أغلبهن يتزوجن في سن الثانية عشر... استغربت فعلا كما استغربن هن أيضا لحالي، لما أفشيت لهن عن سري وأبلغتهن بأني قد بلغت سن ال23 ولم أتزوج، حين أصبحت في نظرهن ''بايرة'' بمعنى الكلمة... وعليه فما حال الفتيات اللواتي بلغن سن ال40 بعد لم يتزوجن إلى حد الساعة؟... للإستفسار عن الموضوع أكثر اقتربت من إحدى الفتيات اسمها ''فاطنة''، التي لاحظتها تنظر إلي من بعيد وتراقب جميع حركاتي كأنها تريد أن تقول شيئا ما، غير أن خجلها منعها من ذلك.. فارتسمت البراءة على وجهها، نعم هي طفلة صغيرة في سن الثانية عشر وأم لطفل صغير، فرحت محدثة إياها باذلة كل جهودي لفهم كلامها... كانت جالسة تقوم بطحن حبيبات تشبه حبيبات الذرة، فأخبرتني بأن الطحين عندما يصبح جاهزا ستمنحه لابنها الذي بلغ الحول، لأنه رفض تناول الحليب، الذي بدا لي أنه لم يتجاوز شهرا واحدا بسبب نحافته، ولما سألتها عن الطعام الذي يتناوله ابنها ما عدا الحليب، أجابتني بالتارڤية ''الخبز'' مكررة إجابتها ''الخبز وفقط''... جزائريون...لكن لا يعرفون شيئا عن الجزائر.. وشيوخ المنطقة ينتظرون متى تستقل الجزائر؟! عمي ''مبادو'' رب عائلة أخرى من البدو الرحل، كان يرعى بقطيع صغير من الماعز، غير أنه وبمجرد أن رآني رفقة أعضاء القافلة الخاصة بالحماية المدنية نقترب من عائلته حتى هرول مسرعا باتجاهنا، محاولا الإستفسار عن سبب مجيئنا، كان الشيخ يبدو من ملامحه أنه قد تجاوز العقد السادس بكثير، طويل القامة، أسمر البشرة كغيره من سكان المنطقة... غير أن الشيء الذي ميزه عن بقية السكان الذين التقيناهم أنه يعرف الكثير عن الحياة وليس بالجاهل والأمي... عمي ''مبادو'' كان يملك بطاقة تعريف وطنية على عكس جميع من قابلناهم هناك ويعرف أنه جزائري الجنسية، بحيث أخبرني أنه قام باستخراجها قبل ست سنوات من تاريخ اليوم، إلا أنه اليوم ليس بحاجة إليها، فهو لا يقصد المدينة أبدا، وأما البقية فغالبيتهم لا يعرفون معنى ''الوطن'' ولا يعرفون شيئا عن ''الجزائر'' و لا عن العلم الجزائري، إلى درجة أنني وجدت صعوبة في طرح بعض الأسئلة عن الوطنية، فحين تسألهم عن وطنهم، فلا تجد لديهم إجابة، لأنه وبكل بساطة لا يجدون كلمة مرادفة لكلمة ''الوطن'' في قاموسهم الخاص... اندهشت، استغربت، وظللت على حالي إلى غاية عودتي إلى الجزائر وأنا أروي لزملائي وزميلاتي في العمل مدى معاناة هؤلاء السكان الذين لا حول لهم ولا قوة سوى انتظار ''الموت''... ''خالد'' يعد من بين الأشخاص الذين رافقونا إلى ''اين غزال''فأخبرني أنه قابل عدة أشخاص ممن عايشوا الثورة، وإلى حد تاريخ اليوم فهم لا يعرفون أن الجزائر قد نالت استقلالها، فتجدهم يسألون بصدق إن كانت ''الجزائر'' قد استقلت فعلا أم أنها لا تزال تحت وطأة الإستعمار الفرنسي... عفوا لا أدري إن كانوا يعلمون أن فرنسا هي من استعمرت الجزائر أم لا. الإستحمام من المستحيلات السبع.. يؤجل إلى تاريخ غير معلن أخبرنا من التقينا بهم أن جميع السكان في صحراء ''اين غزال''، كانوا يحصلون على الماء من بئر يتوسط المنطقة، فالكل يشرب من ذلك البئر الذي يخرج منه أنبوب طويل يصب مباشرة في نصف برميل متسخ تنبعث منه روائح كريهة... و لو بقيت للحظات أخرى في تلك الزاوية لأغمي علي، غير أن الجفاف الذي ضرب المنطقة، جعل مسألة ''الإستحمام'' و''الإغتسال'' من المستحيلات السبع، معاناتهم لا تتوقف عند هذا الحد، فغالبية السكان في تلك الصحراء يعانون من أمراض معدية كالجرب والنقرس بسبب نقص النظافة، فضلا عن إصابتهم بالعديد من الأمراض الأخرى التي عرفت انتشارا واسعا بين السكان.. حتى الأطباء عجزوا عن إيجاد الدواء لتلك الأمراض التي نخرت أجسادهم النحيفة التي أنهكها الفقر وزادها التهميش، وإلى غاية كتابة هذة الأسطر، أتمنى أن تلتفت السلطات في يوم من الأيام حين يحن قلبها، إلى هذه المنطقة الصحراوية التي تنعدم فيها الحياة كلية...