كثيرا ما ينصب الاهتمام على الشعر الشعبي الذي أخذ حصة الأسد من الحفظ، التدوين والتسجيل، لأنه عكس القصة الشعبية، يُغنّى ويتعاطاه الفنانون من جيل إلى جيل، حيث نعرف من خلاله فحول الشعراء والشيوخ، أما القصة الشعبية ''المحاجية''، فهي شفهية وانكمشت لحد كبير، بل لم تعد بذلك التداول الذي كانت عليه في الأيام الخوالي، فهل نفكر في حفظ الأحاجي وتدوينها؟ السؤال يبقى مطروحا بالنسبة للقصص الشعبي، لو أضفنا له الأمثال والحكم، فإنه ينبغي جمعها، جردها وتدوينها حتى لا تنمحي من ذاكرتنا الثقافية. وعكس الشعر، فإن القصص الشعبي لم يعد يمارس على المستويات الاجتماعية، لأن وسائل التسلية والترفيه أصبحت تحتل المرتبة الأولى في التسلية والترفيه. وأصبح التلفزيون يقوم مقام الجدّات، فيتحلّق حوله الصغار، وأصبح ''طوم وجيري''، ''الكابتن ماجد''، ''الحروب الفضائية''، القصص الحيوانية، الأساطير اليابانية والصينية هي التي تحتل مكان الجدة، بل مكان ثقافتنا الشعبية التي توقفنا على العمل بها، ولم نفكر في توظيفها توظيفا ثقافيا وطنيا، واكتفينا على الترويج للاقتباس من كتب التراث ك''كليلة ودمنة''، هذا إن قدمنا لأطفالنا بمناسبة العطل مسرحيات للترفيه عليهم، ولم نخرج الطفل من دائرة القصص الساذجة حول الحيوانات، الدراسة، النظافة والكسل عن الدراسة، وهذه المواضيع تم استهلاكها، ويبقى هذا الاستهلاك يتكرر عن طريق المهرّجين الذين هم في حاجة إلى تأهيل علمي تربوي نفساني، حتى يتمكنوا من فهم عالم الطفولة. القصص الشعبي الجزائري، تتوفر فيه عناصر الهوية الجزائرية من أخلاق، دين، تكاتف، تعاون، بطولة، مغامرة وأساطير جميلة في روعة قصص ''ألف ليلة وليلة''، ابتداء من ''بقرة اليتامى'' التي اشتهرت كثيرا وجرت حولها دراسات، إلى قصة ''الجازية'' و''ذياب الهلالي'' وما تحمله من ذكاء، فطنة، بداهة وشجاعة، بطلها ليس الرجل بمفرده، بل المرأة أيضا، حيث يصورها لنا الأدب الشعبي في منتهى الذكاء، الفطنة، الحكمة والشجاعة، إضافة إلى القصص الشعبي غير المدون وغير المعروف، مثل ''حديدوان'' الذي نستعمل اسمه كرمز، لكن الكثير منا لا يعرف قصة هذا البطل الشعبي الجزائري، وسبب تسميته باسم الحديد راجع لقوة ذكائه وتغلبه على الغيلان ''الغول''، والذي يعد رمزا للاستعمار الفرنسي، وأيضا ''بوكريمسية''، ''عشبة خضار'' وغيرها من الأحاجي والقصص، ناهيك عن قصص البطولات والفتوحات الكبيرة التي يتمز بها الأدب الشعبي بنسيجة وتعاطفه مع الضعفاء، إلى جانب محاربة الظلم والجور، مثل القصص التي تروى عن حروب الإمام علي -كرم الله وجهه- مع ''رأس الغول''، و''بئر ذات العلم'' في محاربته للجن، وهذه القصص ظهرت في الأوساط الشعبية إبان الاحتلال الفرنسي، وهي مقاومة ثقافية من أجل الحفاظ على الشخصية الوطنية بكل مميزاتها، فظهرت هذه القصص احتجاجا على تجنس اليهود بالجنسية الفرنسية ومعاملتهم معاملة امتيازية على المواطن الجزائري، فظهرت خلال ثورة ,1871 هذه القصص التي تدين اليهود وتعري خداعهم، نفاقهم وتعاونهم مع الاحتلال ضد الجزائريين، حتى أصبحت كلمة يهودي في أوساط المجتمع الجزائر معرّة وسبا، بالإضافة إلى تسمية ''الغول'' الوحش بأسماء يهودية ونصرانية، فدائما ''الغولة''، وهي أنثى الغول، تلد طفلين يسميان على ملة اليهود والنصارى عيسى وموسى، ومن يرضع من حليب الغولة يأمن شرها، لأنه رضع من الثدي الذي رضع منه عيسى وموسى. القصص الشعبي الجزائري لعب دورا كبيرا في المقاومة جنبا إلى جنب مع الشعر الشعبي في الأسواق، واستطاع أن يحافظ على الهوية والخصائص الثقافية التي تميز مجتمعنا، وكثيرا ما نجد القاص يهرب إلى ابتكار أبطاله من الحيوانات، ويجعل منها حيوانات ناطقة، مثل الذئب، الغراب، الثعلب، الطيور والغزلان، بالإضافة إلى خلق العالم الموازي؛ وهو عالم الجن والعفاريت، وتبقى زوجة الأب أو الأم غير الشرعية أو الحقيقية هي التي تمثل الشر كله وتفرّط في أبناء زوجها، تستبعدهم، تهينهم وتكيدلهم، والأم غير الشرعية هنا ''فرنسا'' باعتبارها استعمار ودخيل على البيت الجزائري، والتي كانت كثيرا ما تتشدق بأنها أم للجزائريين، وهذا ما نكتشفه في ''بقرة اليتامى'' والبقرة هنا ترمز إلى الأرض ''الجزائر'' التي تحنو على أبنائها وتعطيهم من خيرها، إلا أن هذه الأم غير الشرعية تكيد للمواطنين الجزائريين وتجتهد في تعذيبهم وإلحاق الضرر والأذى بهم، عكس أبنائها الأصليين الذين تحبهم وتوفر لهم سبل العيش والرفاهية. كما أننا نجد في قصصنا الشعبي مجالا كبيرا للثعبان أو ''الحنش''، وهو الآخر رمز للاستعمار الفرنسي، بما يحمله من خطر وموت زعاف. نحن في شهر التراث، وينبغي أن نلتفت إلى رصيدنا الثقافي، ونقوم بتسجيله، تدوينه وتوظيفه في مسارح الأطفال وأفلامهم المتحركة، لأن هذه القصص الشعبية كانت ترويها لنا الجدات في ليالي الشتاء الباردة حول موقد النار، أو في ليالي الصيف الصافية، في السمر والسهرات. فهل فكرنا في حفظ هذه الأحاجي وتدوينها، باعتبارها من تراثنا، وينبغي أن نحفظه ونخلصه من التلاشي، لأنه من ذاكرتنا الشعبية؟.