تشهد المنطقة العربية في وقتنا الراهن الكثير من التحولات السياسية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية التي غالبا ما تشوبها الصراعات وتقليص الحريات، الأمر الذي يؤثر سلبا على العقول المنتجة وذوي الأفكار النيرة، ويجعلها تفكر في هجرة أوطانها لفضاءات أرحب تتاح فيها الحرية وتحتضن فيها الكفاءات والمبدعون مهما كانت جنسياتهم، وهو ما سينعكس سلبا لامحال على الموطن الأصلي لهاته الطبقة من المثقفين العرب الذين سيخدمون اقتصاديات دول أخرى. ولمعرفة الأسباب التي ألت إلى تواصل نزيف العقول من العالم العربي إلى الخارج ومدى علاقته بالبيئة الثقافية الراهنة، اقتربت "الأمة العربية" من بعض الفاعلين العرب في الأوساط الثقافية والعلمية، ورصدت لكم رؤاهم وهواجسهم من عدم تكوين برامج ثقافية وتعليمية وسن تشريعات تناسب مجتمعاتنا وبيئتنا لمواجهة غد لايعترف فيه إلا بالقوة الصناعية والتكنولوجية. رئيس إتحاد الناشرين العرب" محمد علي بيضون": " احتجاب وهجرة العلماء ناتج عن عدم احترام علمهم وتوفير العيش الكريم لهم" ورد رئيس اتحاد الناشرين العرب "محمد علي بيضون" هجرة الكفاءات العربية إلى الخارج لأسباب عديدة، منها استعمار بلادنا العربية والإسلامية لمدة طويلة، وزرع الشك تجاه الشعب والشعب من الحكام، الأمر الذي جعل الجميع ينظرون بعين الريبة من العلماء والمثقفين والخوف من كلمة الحق المطلوب منهم أن يقولوها للحكام دون خشية من العقاب الذي سيلحقهم بعد ذلك"، ما نتج عنه في رأي "علي بيضون" تحول الحكومات لحكم الناس وليس للحكم بين الناس، إضافة إلى عدم فسح المجال للمفكرين في وسائل الإعلام الوطنية والحكومية من إبداء وجهة نظرهم وتقديمها للمواطنين، فتموت أفكارهم في صدورهم ويقضون قهرا عليها، كذلك عدم إتاحة الفرصة لهذه الطبقة من العلماء والمثقفين للعيش بكرامة في أوطانهم وعدم احترام ثقافتهم وعلمهم وتوفير لهم مناصب للعمل في مؤسسات علمية وأبحاث مستقبلية، ما تمخض عنه حسب ما ذكره محدثنا احتجاب أو اختفاء أو هجرة المفكر والباحث نحو بلاد الغرب حيث يجري احتضانهم. وتأسف" بيضون" لحال دولنا اليوم التي أصبحت محكومة ببرامج الكمبيوتر التي يرسلها لنا بضعة أفراد في الشركات العالمية التي تربح المليارات من جراء تبعيتنا لهم من دون تفكير أو تمحيص، مشيرا إلى أن هجرة الكفاءات خسارة لا تعوض، لأن معظمهم درسوا على حساب وطنهم ودولهم التي أنفقت عليهم الملايير، ومن ثم المطلوب منا حسب"محمد بيضون" تثقيف وتعليم الأجيال القادمة وتجهيزهم في الميادين التي يجب أن يعملوا بها، والتي سوف يحكمها العلم والثقافة، مع ضرورة إيجاد تشريعات وبرامج ثقافية وتعليمية تناسب مجتمعاتنا وبيئتنا كي نستعيد حضارتنا وقيمنا الأخلاقية التي أصبحنا نبتعد عنها يوما بعد يوم. الناقد السينمائي المصري "أمير العمري": "تضييق الحرية وسيطرة الفكر الغيبي وراء نزيف العقول العربية إلى الخارج" من جهته، ذكر الناقد السينمائي المصري "أمير العمري" أن غياب البيئة الثقافية والفكرية في العالم العربي سببه ما يمارس منذ عقود من قمع على المثقفين، الأمر الذي أدى إلى حدوث نزيف العقول من العالم العربي إلى الخارج نتيجة غياب حرية الفكر والإبداع وحتى البحث العلمي . و من جملة الأسباب التي أوردها "أمير" سيطرة الفكر الغيبي، وعدم تخصيص ميزانيات للأبحاث العلمية لأن السلطات تعمل على الاستيراد الذي يلبي حسب تعبيره تطلعات منظومة الفساد (العمولات والرشاوى..الخ)، وكذا عدم حصول أهل العلم والفكر على حقوقهم المادية التي تصون كرامتهم في مجتمعات تعلي من شأن أهل الاستعراض والغناء على أهل العلم، ومن ثم فالعلماء يتجهون الى حيث يوجد المناخ الذي يوفر لهم حياة كريمة بعيدة عن الضغوط لكي يستمروا في إبداعهم. وأردف بقوله: " الثقافة لا تنمو سوى في مناخ الحرية، والأحزاب المستبدة التي تحكم معظم الدول في العالم العربي تحكم قبضتها تماما ولا تسمح بالنقد، وتمارس عملية إفساد منظم للمثقفين منذ سنوات طويلة سواء بالوعيد أو التقريب أي بسياسة العصا، أي اما بالشراء مقابل الصمت، أو بالتهديد والاغتيال المعنوي والإبعاد التام عن الأضواء والقمع المباشر، وأيضا عنصر إفساد الحياة الجامعية وتدخل الأمن فيها، و إفساد البيئة الأكاديمية بتقريب الأساتذة الذين يخضعون للتوجهات السياسية الرسمية و إبعاد أو استبعاد الأساتذة المعارضين أو أصحاب الفكر المستقل". وختم حديثه أنه إذا كانت هناك بداية ثورات على هذه الأوضاع فسوف يستغرق الأمر عقودا إلى أن يتم التغلب على التدهور الذي ترسب عبر عهود طويلة.
الدكتورة الجامعية"سعيدة كحيل": "غياب الحس الوطني ،الإنبهار بالأخر وذهنيات المجتمع كلها عوامل أدت إلى هجرة الكفاءات" من جانبها ، اعتبرت الدكتورة "سعيدة كحيل" من قسم الترجمة بجامعة عنابة - الجزائر، أن البيئة الثقافية العلمية المحترمة لعلمائها ومفكريها أسست في مهد الفكر العربي والدليل على هذه المكانة الإشارات الواضحة في القرآن الكريم والسنة النبوية لمنزلة العلماء ثم شيدت الحضارة العربية معالمها ممثلة في بيت الحكمة وغيرها. وأضافت أنه بعد تغير الرؤى وانقلاب الموازين و وجود الاحتفاليات بيوم العلم ويوم المعلم إلا أن البيئة التي تترعرع فيها هذه الاحتفاليات مغيبة، مستثنية بعض الهيئات المحترمة التي تكرم كل يوم علماءها ومثقفيها وهم أحياء، كالمجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، إذ تعتبرها صورة نيرة للبيئة الثقافية المحفزة على الإبداع وهي رسالة رئيس المجلس وأعضائه الأفاضل ويتجلى هذا الفعل الثقافي للمؤسسة في تكريم شخصيات جزائرية لسبب واحد فقط هو إسهامها في خدمة الثقافة . وأشادت أنه بفعل هذه البيئة ترتسم كل يوم في ذهن الجزائري قيمة الفكر والعلم وحب الانتماء إلى وطن يجل مفكريه من أمثال الأستاذ الدكتور العلامة مختار نويوات، و بفضل هذه الصورة سيحب كل مجد في هذا الوطن أن تكون بيئته الجزائر . وأرجعت "سعيدة كحيل" وجود النزعة الإنسانية إلى السفر والرحلة والتلاقح الفكري لغاية إفادة الوطن مشروعة وكانت موجودة في مراحل تاريخية مختلفة وعند الشعوب جميعها، وفي رأيها السبب الرئيسي في هجرة الكفاءات داخليا وخارجيا، يكمن في تقلص الإحساس بالانتماء والوطنية والبحث عن حياة فكرية مناسبة في غياب الظروف المناسبة خاصة المادية وحتى المعنوية حيث يكرس المجتمع أحكاما سلبية فيعلي من شأن التجار على قيمة عملهم ويدني من شأن العلماء والمثقفين سراج الأمم وعماد البعث الحضاري ، فضلا عن سعي المجتمع إلى بناء المكان بدل الإنسان وهي مفارقة تعيشها المجتمعات العربية بسبب الحاجة المادية والانبهار بالآخر. المخترع الجزائري "عبد الرحمان سحوان" : "انعدام الثقة في الكفاءات الوطنية من قبل المسؤولين وراء تنامي الظاهرة" قال المخترع الجزائري " عبد الرحمان سحوان" الذي يمتلك أربع براءات اختراع، أن بيئتنا الثقافية العربية بما فيها الجزائرية تشجع الثقافة الاستهلاكية المبنية على الاستيراد والربح السريع، وتغفل الجانب الاستثماري في الطاقات والكفاءات البشرية، مرجعا ذلك لغياب الثقة من قبل مسؤولينا في الاختراعات التي تكتشف في الجزائر، إضافة لانعدام الدعم من قبل القطاع الخاص. وأضاف "عبد الرحمان" بأن الوضع الراهن ساهم في وجود نزيف في الكفاءات العربية إلى الخارج بحثا عن متنفسا يتيح لهم فرصة البحث والتميز، موضحا من منطلق تجربته أن عزيمته في الاختراع قد قلت منذ 2007 بعد أن وجد جل اختراعاته في ضبابية ولم تعرف مجالا للتطبيق، ولكنه لم ينفي مواصلة نضاله وطموحه من أجل تجسيد مشاريعه داخل بلاده ليستفيد منها أبناء وطنه، والمضي قدما في الابتكارات العلمية التي تساعد الإنسان في حياته اليومية. ودعا "سحوان" في ختام حديثه ل'الأمة العربية" إلى ضرورة وجود قرار سياسي يدعم البحث والباحثين، ويوفر الأرضية القانونية للاستثمار في المنتوجات الجزائرية الابتكار والصنع، كذلك توفير الإمكانيات في مراكز البحوث ومخابر الجامعات، إحداث نوادي علمية للقاءات بين الباحثين والموهوبين، وكذا تنظيم ملتقيات، معارض ودورات سنوية بإشراك كل القطاعات العمومية والخاصة المعنية كالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب، وهذا قصد تثمين الاختراعات والبحث عن إمكانية تجسيدها على أرض الواقع، إلى جانب ذلك تخصيص زيارات ميدانية للباحثين في المدارس التربوية لتحفيز الأطفال على الاكتشاف والاجتهاد، مع تفعيل الدور الإعلامي بمختلف وسائله لاسيما المرئي منه في تشجيع الموهوبين عن طريق اللقاء بهم والتعريف بمنجزاتهم. ولفت الباحث النظر إلى الدور الأساسي الذي ينبغي أن تلعبه الأسرة في دعم أبنائها علميا، وتحفيزهم واكتشاف علامات نبوغهم و مهاراتهم في وقت مبكر، وفي تقدير محدثنا بفضل هذه العوامل مجتمعة نستطيع النهوض بأمة تقدر العلم والعلماء.